ريم الحامدية

[email protected]

 

نعيشُ بلا طقوسٍ كأننا لا نعيش حقًا، كأنَّ الحياة تسير بنا على عَجَل، كأننا اعتدنا الاختصار، لم نعد نعيش الحياة؛ بل نمُر بها، لا نحتفل كما ينبغي ولا نحزن كما يليق بالحزن، نضحك ونكتم شيئًا في داخلنا، ونبكي ونحن نُطمْئِن من حولنا بأن كل شيء بخير، نعيش بلا طقوس وكأننا نختصر الحياة في عنوان جانبي، أو نُؤدِّيها كواجب مفروض لا بُد أن يُنجز في الوقت المُحدد، صرنا نخجل من البهجة ونتحاشى الألم ونستعجل الأيام وكأننا نركض خلف لا شيء.

فقدتْ الأعراس أهازيجها، وفقدتْ الجنازات صمتها المَهيب.. نمُر على الأفراح كالعابرين في زحمة محطة قطار، وعلى الأحزان كأننا نخشى أن ننكسر. لم نعد نمنح الفرح فسحة ليرقص في أرواحنا، ولا نترك للحزن مكانًا يغسل ما علِق بنا من تَعَبٍ، نتعامل مع الأحداث كأنها مجرد أخبار علينا تجاوزها، لا كجزءٍ من طبيعتنا البشرية التي تحتاج إلى التوقف والاحتفاء والانهيار. أحيانًا أتساءل في كل مرة أحضرُ فيها فرح أو عزاء: أين اختفت الطقوس؟ بينما كانت في زمنٍ ما الولادة مهرجانا، والحب طقسًا، والفقد نحيبًا تهتز له البيوت، واليوم نخجل من كل هذا، نخجل من الشعور وكأنه ضعف!

نعيشُ بلا طقوس؛ فتصبح الأيام متشابهة، وتذوب المناسبات دون أثر، كادت الأيام أن تتشابه وتغدو المناسبات محطات سريعة لا نكاد نشعر بها. يُولد طفل فلا نغني له، يموت عزيز ولا ينكسر البيت كما اعتدنا، يتخرَّج أحدهم؛ فنكتفي بصورة جامدة كقطعة ثلجٍ مُتحجِّرة، يتزوج أحدهم فلا نرقص له.

ما قيمة الحياة إنْ لم نُحسن عيشها؟ ما جدوى الأعمار إن مرَّت كأرقام بلا طقوس تحفظها وتمنحها الدفء والذاكرة؟

الطقوس ليست ترفًا.. الطقوس لغة الروح واحتفال بوجودنا، طريقة لعيش اللحظة بكل ما فيها، لا كأننا نمُر عبرها؛ بل كأننا نولد فيها!

صرنا نعيش بلا طقوس.. بلا ملامح.. بلا روح.. لماذا أصبح كل شيء سطحيًا؟ أكادُ أجزمُ بأننا فقدنا لذة الطقوس، وفقدنا معها أعذب ما في الحياة وهو “الشعور الحقيقي”. لذا نمضي كما تمضي الغيمات الخفيفة لا تُمطر ولا تترك ظلًا، يبقى كل شيء يمر ولا شيء يلامسنا، كأن الحياة أصبحت لوحة باهتة، لا نُلوِّنها بضحكةٍ ولا نغمُرها بدمعة، نمشي فيها كغرباء نُرتِّب مشاعرنا في خزائن مُغلقة، ونخاف أن نُبعثِر أنفسنا أمام الضوء، لم نعد نحتفل بالحياة ولا نُشيِّع أحزاننا كما تستحق.

أصبحنا نعيش بلا طقوس، ونختصر كل شيء.. نختصر يوم الميلاد برسالة، والتخرج بمُلصق، والزواج بتهنئةٍ عابرة، والموت بعبارة “إنا لله وإنا إليه راجعون” تُنسخ وتُلصق وتُنسى.

أين ذهب كل شيء كان يعطي الحياة نكهتها؟ أين ذهب صوت النساء في الأعراس وهُنَّ في أوج السعادة؟ أين ذهب الغناء للحياة؟ أين طقوس الفَقد التي كانت تُبكي قرية بأكملها؟ وأين الصمت الحزين في العزاء؟ وأين طقوس القهوة الصباحية التي كانت تُفتح بها الأحاديث؟ أين ذهب الانتظار؟ التفاصيل؟ التهيؤ للمناسبة؟ الانفعال الصادق؟

أصبحنا نجُيد العبور، نُجيد المرور على الفرح كأننا لا نعرف الرقص، وعلى الحزن كأننا لا نُجيد الانكسار، نُطفئ الشموع قبل أن نُشعلها، لا نُعلِّق الزينة على المنازل، ولا نهدي حتى أغنية المساء، ونغلق الأبواب قبل أن نطرقها ونؤجل الحياة.. كل الحياة إلى إشعار آخر وهكذا حتى نخسر ما يجعل اللحظة تستحق أن تعاش.

وحدها الطقوس تعطي للحياة ملمسها، تعلمنا أن العيش ليس فقط أن نتنفس؛ بل أن نشعر ونحتفل ونبكي ونرقص حتى تكتمل الحكاية، وعلينا أن نعلم أن الطقوس ليست مبالغة؛ لأننا نحتاج لأن نعيد كل شيء لمكانه، للفرح صوته، وللحزن حضنه، وللميلاد زينته، وللموت وجعه الذي لا يخجلنا، نحتاج أن نربي أنفسنا مرة أخرى، وأبناءنا على الطقوس، وأن نعلمهم أن الحياة ليست خطًا مستقيمًا؛ بل فصولًا من الاحتفاء والانكسار والنهوض والاشتياق.

دعونا نُمهل أنفسنا لحظة نعد للفرح مراسمه وللحزن جلاله دعونا نحتفي بانتصاراتنا بلا خوف ونبكي خساراتنا بلا خجل، لنعُد إلى البدايات الجميلة التي كانت تجعل من كل يوم قصيدة، ومن كل شعور طقسًا يستحق أن نعيشه حتى النهاية، نحتاج أن نعيد للحياة طقوسها لكي نشعر بها، فامنحوا لكل شيء طقسه الذي يليق به، وامنحوا أنفسكم حق العيش لا المرور فقط؛ لأن الإنسان بلا طقوس كبيتٍ بلا أبواب، بلا نوافذ، بلا دفء.

شاركها.