افتتح مهرجان شنغهاي الدولي الـ27، في دورته التي عقدت من 16 إلى 22 يونيو، بالفيلم الصيني “ليس لديها اسم” She’s Got No Name، للمخرج والمنتج المعروف بيتر شان، وخلال أيام المهرجان عرض الفيلم أكثر من مرة حظي خلالها بإقبال كبير، وقبل أن ينتهي المهرجان كان قد طُرح في دور العرض العامة في 20 يونيو، وحقق خلال نهاية الأسبوع رقماً قياسياً في شباك التذاكر وصل إلى ما يزيد عن 24 مليون دولار، متصدراً الإيرادات بفارق ملحوظ عن منافسيه الأقرب، الأميركيين، How to Train Your Dragon وMission Impossible، متوقعاً أن يتجاوز ايراداتهما معاً خلال الأسابيع القادمة.

She’s Got No Name هو أحد الأفلام باهظة الإنتاج، متطورة التقنيات، ذات النفس الملحمي والأسلوب المنمق، التي اتجهت إليها صناعة السينما الصينية في السنوات الأخيرة، لإنتاج أفلام تنافس هوليوود وتخطف الإيرادات وإعجاب المشاهدين.

عنواناً للفخامة

إذا أردنا أن نضع عنواناً أو وصف يلخص فيلم She’s Got No Name فإن الكلمة الأقرب هي “الفخامة”، هذا فيلم فخيم في كل تفاصيله: أكثر من عشرين ممثلاً شهيراً من نجوم السينما الصينية على رأسهم زانج زيي، التي عملت مع كبار المخرجين مثل زانج ييمو وونج كارا- واي وأنج لي، وشاركت في أفلام بشهرة Crouching Tiger Hidden Dragon وThe House of Flying Daggers وأفلام أميركية مثل Rush Hour وغيرها.

بجانب النجوم، يسعى She’s Got No Name إلى الإبهار، من خلال القصة البوليسية المشوقة التي تعتمد على واقعة تاريخية لجريمة قتل غامضة لم تحل أسرارها إلى الآن.

وينتمي الفيلم إلى ما يعرف بدراما “الحقبة التاريخية” (تدور الأحداث في شنغهاي منتصف أربعينيات القرن الماضي)، وعملية إحياء هذا التاريخ شئ مبهر في حد ذاته، خاصة أن صناع الفيلم قاموا بتأجير منطقة قديمة في شنغهاي وبنوا حولها ديكورات فيلمهم، بالطبع بجانب الحرص على إبراز تفاصيل هذه الفترة من عمارة وملابس وسيارات وشوارع.. إلى آخره.

يعتمد الفيلم أيضاً على الإبهار البصري المتمثل في الشاشة العريضة والمؤثرات البصرية والصوتية، ويعرض حالياً على 690 شاشة IMAX في أنحاء الصين، حقق من خلالها فقط ما يقرب من 3 مليون دولاراً.

“فخامة” الفيلم تمتد أيضاً إلى زوايا التصوير وأحجام اللقطات وحركة الكاميرا، وحتى أسلوب التمثيل “الميلودرامي”، الذي يعتمد على المبالغة (ويذكر بالأعمال الهندية المماثلة مثل RRR) والذي تتسم به الأعمال الملحمية الأسيوية، التي تستلهم أسلوب الأساطير والرسومات القديمة.

كذلك يعتمد أسلوب التصوير على اللعب بالضوء والظلال بشكل كبير، مستوحياً اسلوب “الفيلم نوار” Film Noir البوليسي من ناحية، ولوحات الرسام فيرمير من ناحية، وأسلوب الرسم الصيني بالحبر الشيني من ناحية.

وبمناسبة الفخامة أيضاً فقد عرض الفيلم لأول مرة في مهرجان “كان” الأخير خارج المسابقة في نسخة طويلة تزيد عن الساعتين ونصف الساعة، ولكن المراجعات النقدية وردود فعل المشاهدين لم تكن إيجابية بشكل عام، ما أقنع صناع الفيلم بإعادة مونتاج الفيلم وإضافة بعض المشاهد وتقسيمه إلى جزئين، وبالتالي فالنسخة التي تعرض حالياً هي الجزء الأول.

هذه الواقعة ليست الوحيدة من نوعها وكثير من كبار المخرجين والمنتجين يقومون بتعديل أفلامهم وفقاً لردود فعل المشاهدين والنقاد على العروض الأولى، وأعتقد أن هذا يعكس مدى قوة هؤلاء المخرجين وثقتهم بنفسهم وليس العكس.

رحلة عبر الأنواع

وبيتر هو- سان شان (أو بيتر شان) مخرج الفيلم هو  أحد الأسماء اللامعة في السينما الصينية  التي تصنع في هونج كونج، حيث ولد وعاش وصنع العديد من الأفلام الناجحة نقديا وجماهيريا منذ التسعينيات، منها Comrades: Almost Love Story، 1997، الذي صنع نجومية الممثلة ماجي شيونج، وDragon، 2012، وهو فيلم “أكشن” من نوعية الكونغ فو الشهيرة، تدور أحداثه في بداية القرن العشرين، حقق إيرادات قياسية عند عرضه، وهو من بطولة دوني ين، بطل الأكشن وصانع الأفلام القتالية المعروف، وصاحب سلسلة أفلام IP Man الشهيرة.

وبجانب تأثره باسلوب هونج كونج الذي يعتمد على الأكشن والميلودراما الصاخبة، يتميز بيتر شان بقدرته على تقديم أنواع مختلفة من الأفلام: الاجتماعي والتاريخي والعاطفي والأكشن، ويتبين ذلك من خلال الأفلام المختارة التي يعرضها مهرجان شنغهاي لبيتر شان في إطار تكريمه. Perhaps Love، 2005، مثلا، يتناول تعقيدات الحب والارتباط، بينما يروي The ، Warlords، 2007، فترة تاريخية حربية من القرن السابع عشر، يدور American Dream in China، 2013، حول التحولات الإقتصادية المعاصرة التي حدثت في الصين من خلال قصة ثلاثة أصدقاء يدخلون مجال “البيزنس”، ويحلمون بتحقيق مشروع تجاري كبير.

يمثل “ليس لديها اسم” عودة بيتر شان للنوع التاريخي، ولكن بشكل مختلف، فالخلفية التاريخية السياسية في الفيلم تأتي بعد الدراما العائلية والتحقيق البوليسي اللذان يتصدران المشهد، حيث تتدور الأحداث حول جريمة قتل حدثت خلال منتصف أربعينيات القرن الماضي، وتحديداً في 1945، ذلك العام الفاصل في تاريخ الصين (والبشرية)، الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية رسمياً بالقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجازاكي.

طبقات من التاريخ

في تلك الفترة  كانت شنغهاي مدينة كوزموبوليتانية، محتلة من اليابان حتى كان يطلق عليها “طوكيو الصغيرة”، وقد صور ستيفن سبيلبرج شنغهاي هذه الفترة في فيلمه Empire of the Sun، 1987، وقد كانت المدينة مسرحاً لأحداث وتصوير بعض الأفلام الهوليوودية القديمة مثل Shanghai Express الذي أخرجه يوزيف فون شتيرنبرج ولعبت بطولته النجمة مارلينه ديتريش في 1932!

المدينة، وتاريخها ووضعها السياسي في ذلك الوقت، تلعب دوراً أساسيا في “ليس لديها اسم” علماً بأن للفيلم اسم آخر بالصينية هو The Mystery of Jiangyuan Lane أو “لغز حارة جيانجيوان” في إشارة إلى الموقع الشعبي الذي دارت فيه القصة الحقيقية.

وطبقات من السياسة والدين

يدور She’s Got No Name حول امرأة شابة جميلة اسمها زان زو (زانج زيي)، متهمة بقتل وتمزيق جسد زوجها زان يونينج (وانج شوانجون) وإلقاء رأس الجثة في النهر.

على الشاشة لا نرى فعل القتل نفسه، ولكننا نتابع اقتحام الشرطة للمكان، بقيادة المحقق رفيع الرتبة تسو زيوو (لي جياين)، حيث نرى أجزاء الجثة الممزقة في كل مكان، وحيث نرى المرأة جالسة على الأرض في ركن من الشقة مفزوعة وغارقة في الدماء، وتعترف للمحقق بأنها القاتلة، ومن ثم يقوم بسحبها ورجاله مثل البهيمة في الشارع معتبراً أن القضية قد أغلقت باعتراف المرأة المجرمة.

لكن سرعان ما يتبين أن القضية ليست بالبساطة التي تبدو عليها، من ناحية ينبري بعض الحقوقيين والمدافعات عن حقوق النساء بالدفاع عن الزوجة المظلومة معتبرين أنها ضحية، ومن ناحية تظهر أدلة أخرى تشير إلى وجود شريك للمرأة أو ربما القاتل الحقيقي.

ولكن المحقق الذي يبدأ بتعذيب زان زو بدافع الكراهية الشخصية (ومخفياً اشتهاءه لها في الوقت نفسه) يصر على إلصاق التهمة بها، وحتى عندما يبدو أنه سيفشل قانونياً، يقوم برشوة القاضي بتذكرة للهرب إلى هونج كونج (أمام الغليان الثوري الذي تشهده البلاد)، مقابل الحكم بإعدام زان زو، ولكن الثوار الذين يجتاحون المدينة سيكون لهم رأي آخر، ما سيبقي القضية غامضة ومفتوحة حتى يومنا هذا.

معركة مستمرة

تثير القضية ضجة اجتماعية هائلة لعدة أسباب: أولاً بشاعة الجريمة التي اعتبرها المحافظون برهاناً على الانهيار الأخلاقي والخروج على سنن الطبيعة خاصة فيما يتعلق بتجروء النساء على قتل الأزواج، في مجتمع يقدس الرجال ويكرس العنف المنزلي (من قبل الأزواج والآباء والأخوة) ضد النساء.

في الوقت نفسه يهب الليبراليون للدفاع عن المرأة التي تعذبت كثيراً على يد زوجها السكير المقامر العنيف، ما دفعها في لحظة غضب مشروعة للرد وقتله.

ويستعرض الفيلم جوانباً من الحياة الثقافية “الحديثة” في شنغهاي من خلال ممثلة مسرح شهيرة تتبنى الدفاع عن الزوجة.

كما أننا نرى هذه الممثلة، في بداية الفيلم، وهي تقدم أحدث عروضها المقتبس عن مسرحية “بيت الدمية” للكاتب النرويجي هنريك ابسن، التي تعد من بدايات الأعمال المسرحية والأدبية التي تناقش قضية تحرر واستقلالية المرأة وتنتهي، كما هو معروف، بخروج الزوجة من البيت وتمردها على عبودية الحياة الزوجية، حتى لو كانت في قفص ذهبي.

يبرز بيتر شان بشكل خاص هذه القضية باعتبارها نموذجاً مبكراً للصراع الاجتماعي حول تحرر المرأة في الصين، ومن ثم يخاطب جمهور اليوم المشغول كثيرا بهذ القضية، حيث تشهد الصين، وخاصة المدن الكبرى مثل شنغهاي وبكين، صعوداً هائلاً وحضوراً متزايداً للنساء. وكما في كل مكان في العالم (ربما باستثناء عالمنا العربي) يمكن أن ترى الحضور النسائي الطاغي في كل مكان، وفي مهرجان شنغهاي مثلاً لاحظت ذلك سواء على مستوى صانعات ومنظمات المهرجان أو في قاعات العرض!

حكاية شعبية

هذا الصراع الاجتماعي القديم الحديث المحيط بقضية زان زو، يوازيه صراع آخر قانوني و”عقائدي”: من الناحية القانونية هناك ثغرة في رأي البعض لإنه بفقدان الرأس يصعب إثبات أن القتيل هو الزوج (نحن في زمن ما قبل الدي إن ايه والطب الشرعي الحديث).

ومن الناحية العقائدية يمثل فقدان رأس الزوج انتهاكاً دينياً جسيماً، حيث أنه، وفقا للمعتقدات الصينية لا يٌبعث المرء مجدداً في الحياة الأخرى إذا لم يكن جسمه كاملاً، وبالتالي تتخلص الزوجة من رأس الزوج حتى لا تلتقي بزوجها مرة ثانية في حياة أخرى.

وكنوع من تعميق البعد الديني في الفيلم هناك شخصية شاب أعمى، يؤديها النجم إريك وانج، أشبه بالعراف الأعمى في المسرح اليوناني والحكايات الشعبية، يرى ما لا تستطيع الشخصيات أن تراه، وهو متعاطف مع المرأة ويحذر محقق الشرطة من أنه، وفقاً لمقدرات الأبراج الصينية، من دخول الحرب ضد المرأة لإنه سيخسر في النهاية، وهو ما يحدث بالفعل، حيث يجيبه المحقق، على طريقة أبطال التراجيديا الإغريقية، بأنه لا يؤمن بالقدر، ولكنه، مثل هؤلاء الأبطال، ينهار ويتحطم في النهاية لإنه تحدى القدر.

She’s Got No Name قد يكون فخيماً سينمائياً، ولكنه أيضاً عمل شعبي نموذجي على الطريقة الصينية.

* ناقد فني

شاركها.