اخر الاخبار

The Brutalist.. بناء محكم البنيان يطوي الخواء!

يثير فيلم The Brutalist المرشح لعشرة جوائز أوسكار أكثر من مسألة خلافية، بعضها يتعلق بمضمونه، مثل انحيازه للصهيونية في الفصل الأخير من أحداثه، والصورة البشعة التي يرسم بها “الحلم الأميركي” على مدار فصوله كلها، وبعضها يتعلق باختيارات مخرجه برادي كوربت مثل زمنه الذي يصل إلى 214 دقيقة، واختيار طريقة تصوير بطل استخدامها منذ الخمسينيات، ولعل آخرها اكتشاف أن صناعه قد استخدموا تقنيات الذكاء الاصطناعي لتغيير صوت بطليه أدريان برودي وفيليستي جونز لتحسين نطقهما للغة المجرية.

غالباً سيفوز برودي بجائزة أفضل ممثل، رغم ذلك، وغالباً سيفوز الفيلم بجائزة أفضل موسيقى أيضاً، ومن المحتمل أن يفوز بجائزة أفضل مخرج، وإن كان من الصعب فوزه بجائزة أفضل فيلم؛ بسبب كل هذا الجدل الذي سيجعله يفقد الكثير من أصوات أعضاء الأكاديمية، وقبل ذلك بسبب نقاط ضعفه وتعقيده الفني والمزاج العام الكئيب الذي يخلفه في نفوس مشاهديه.

من يصنع العبودية؟

ينطلق الفيلم من وجهة نظر مؤلفه ومخرجه برادي كوربت، الناتجة عن تجارب مرت بها أسرته المهاجرة من أوروبا (حسب ما صرح به في أماكن عدة) من أن أميركا هي جحيم المهاجرين، أو كما تقول الزوجة بالقرب من نهاية The Brutalist: “كل شيء هنا عفن.. البلد كلها عفنة”. وبغض النظر عن مدى عفن الولايات المتحدة الأميركية، فإن التي تقول ذلك ناجية من معسكرات التعذيب النازية في أوروبا، وسوف تذهب بعد هذه الجملة إلى إسرائيل، عسى أن تجد الجنة الموعودة، وللأسف يحتاج الفيلم إلى جزء ثان ليروي لنا حياة هذه الأسرة، حين تذهب إلى إسرائيل، حيث العفن الأصلي!

اقرأ أيضاً
اقرأ أيضاً

Nosferatu.. المسخ امرأة ومصاص الدماء الضحية!

أكثر من 100 عام تفصل بين النسخة الأولى من Nosferatu التي أخرجها الألماني فريدريش فيلهلم مورناو عن النسخة الأحدث التي تحمل توقيع المخرج والمؤلف روبرت ايجرز.

في بداية الفيلم تقول الشخصية نفسها، في خطاب ترسله من أوروبا، حيث لا تستطيع الفرار بعد، مقتبسة من الأديب الألماني الكبير يوهان فولفجانج جوتة: “لا أحد مستعبد أكثر من هؤلاء الذين يعتقدون واهمين أنهم أحرار”.

وهذه العبارة الفلسفية تنطبق على شخصيات الفيلم، بطليه ومعظم الشخصيات الأخرى، كما تنطبق على معظم الناس، إذا استثنينا ربما، هؤلاء الزاهدين والنساك في الجبال والأديرة.

The Brutalist قد يكون أيضا استعارة للظرف الإنساني عموماً، خاصة في المجتمع الرأسمالي الحديث الذي يستعبد الناس، دون أن يشعروا أنهم عبيد، مغرقاً إياهم بحلم الرفاهية على حساب أرواحهم وأجسادهم المهانة المغتصبة. ولكن للأسف لا يصرف كوربت من زمن الفيلم الطويل، ولو دقيقة واحدة ليوحي بهذا المعنى الأشمل والأعمق، مكتفياً بالنقد اللاذع لأميركا فقط، وبالاستغراق في مأساة أسرة بطله فحسب، المتوحد والمدمن والغارق في التلذذ بعذاباته حتى النخاع.

وبطل الفيلم هذا، أدريان برودي، بملامحه وأداءه اللذان لا يعبران سوى عن المعاناة والعذاب، هو لازلو توث، المعماري اليهودي المجري الذي تعتقل عائلته على يد النازي، وينجو منها هو وزوجته إليزابيث (أو إرازبيث حسب الهجاء المجري أو اليصابات حسب الأصل العبري) وابنة أخته صوفيا (أو زوفيا حسب النطق المجري).

يبدأ الفيلم بقطع متواز بين لقطات وأصوات من الجحيم الأوروبي الذي خرج منه لازلو، والسفينة التي تقله إلى الولايات المتحدة، ومع فرح المسافرين بالوصول تتحرك الكاميرا لنرى أول معالم أميركا وهو تمثال الحرية مقلوباً رأسا على عقب، لنرى وجهة نظر صانع الفيلم وبطله منذ اللحظة الأولى.

ورغم بلاغة اللقطة السينمائية، إلا أنها تقول لنا شيئاً واضحاً وضوح الشمس، وللأسف لا يقال سوى على لسان أسوأ شخصية في الفيلم (رجل الأعمال العنصري الجشع هاريسون فان بورين، التي يؤديها ببراعة جاي بيرس)، الذي ينتقد لازلو الذاهل بفعل المخدر، وخلال مشهد اغتصاب بشع، بأنه جاء إلى أميركا محطماً بالفعل، وأنه يحمل دماره الشخصي معه أينما ذهب وبغض النظر عن الظروف التي تحيط به.

اقرأ أيضاًarticle image
اقرأ أيضاً

No Other Land حين يحلّق الفيلم فوق يأس صنّاعه

رغم عدم توزيع فيلم No Other Land في الولايات المتحدة، نجح الوثائقي في الوصول إلى القائمة القصيرة للأوسكار.

إن أول ما يفعله لازلو في أميركا هو الذهاب إلى البغايا اللواتي يستقبلن المهاجرين بالقرب من الميناء، وثاني شيء يفعله هو أن يتعاطى الأفيون الذي تعرف إليه على السفينة كمسكن لآلام إصابته، ومهما علا شأنه خلال السنوات التالية، وانتقاله من الحضيض إلى فرص الحياة الذهبية، إلا أنه لن يتوقف عن الإدمان الذي سيصيبه بالعجز، ويدمر حياته في النهاية.

تضيع هذه الفكرة العميقة، القديمة، التي عبر عنها الشاعر اليوناني السكندري قسطنطين كفافيس في قصيدته الشهيرة “المدينة”، والتي يتحدث فيها إلى شخص، هو الشاعر نفسه، مؤكداً له أن حياته لن تتغير بتغير المكان، وأن مصيره التعيس سيصيبه أينما ذهب، لأن المشكلة داخله هو.

الكابوس الأميركي

لا يمنع هذا بالطبع من أن أميركا والنظام الرأسمالي يستحقان الانتقاد، أو أنهما يحملان ما يحملانه من عفن، ولكن مشكلة شخصيات The Brutalist أنهم يصلون إلى أميركا مدمرين بالفعل جسدياً ونفسياً: الزوجة تصل غير قادرة على الحركة؛ بسبب هشاشة عظامها نتيجة الجوع في معسكرات التعذيب، وابنة الأخت تصل غير قادرة على الكلام؛ بسبب الاغتصاب والعنف الذي تعرضت له، وهي مثل خالها، ستترك نفسها عرضة له مرة أخرى في أميركا.

ولن تقابل تلك المهانة سوى بالتطرف الديني والتوهم بأنها ستجد الجنة في أرض الميعاد إسرائيل، حيث هاجر المضهدون الأوائل ليفرغوا عقدهم وعذاباتهم على الفلسطينيين.

ربما كان يتصور كوربت أنه يصنع فيلما عن “عفن” أميركا، والحقيقة أن فيلمه يعبر أكثر عن “اليهودي التائه”، الذي يحاول عبثاً أن ينهي شتاته في الأرض، متوهماً وجود “أرض الميعاد”، مرة في الولايات المتحدة، ومرة في فلسطين.  

يبدأ الفيلم بسفينة المهاجرين، متعددة الأعراق والجنسيات والأديان، كلهم من بؤساء الأرض الذين يبحثون عن فرصة أخرى في الحياة. أغلبهم سيتعرض لمعاناة شديدة حتى يستطيع أن يضع قدميه على طريق، وأن يثبتهما في الأرض، وغالباً سيتشكل طريق كل منهم وفقا للتركيبة التي أتى بها.

ولنتذكر عائلة الدون كورليوني في الجزء الثاني من ثلاثية The Godfather مثلاً، أو عشرات الأفلام التي صنعت عن المهاجرين خلال السنوات الماضية.

يحسب لفيلم The Brutalist رؤيته الجذرية الحادة للحلم/ الكابوس الأميركي، ولكن مشكلته هي التقوقع داخل نموذج خاص جداً للمهاجرين إلى أميركا.

قد يكون صحيحاً أن أغلبهم جاء هرباً من معاناة، وأن أغلبهم تعرض أيضا لمعاناة في البلد الجديد، ولكن لازلو توث وأسرته جاءوا مدمرين بالفعل، وليس هناك قوة قادرة على الأرض قادرة على علاجهم!

وبغض النظر عن خلل المضمون، الذي زاده كوربت خللاً بعرضه لإسرائيل كملاذ ناجع لأسرة لازلو، دون أن يتطرق من قريب أو بعيد لما واجهوه أو فعلوه هناك، وهو الخلل الذي حاول تعويضه في خطاب حصوله على جائزة أفضل مخرج بالدفاع عن فيلم فلسطيني، وفي تصريحات صحفية بذكر حق الصوت الفلسطيني وقطاع غزة في الوصول إلى العالم، بغض النظر عن المضمون، مرة ثانية، فإن طموح The Brutlaist ومكمن قوته يكمن في بناءه وأسلوبه الفني اللافت.

اقرأ أيضاًarticle image
اقرأ أيضاً

فيلم Conclave.. عن الظلال التي تسكن المؤسسات الدينية

يقدم الفيلم الأميركي Conclave نقداً للمؤسسات الدينية التي تنشغل بما يتعارض مع جوهر العقائد وأسسها الروحية.

صرح سينمائي كلاسيكي

تقول إنجا كاريتنيكوفا في كتاب “كيف تتم كتابة السيناريو” (ترجمة أحمد الحضري، إصدارات المشروع القومي للترجمة)، أن صنع فيلم سينمائي أشبه ببناء كاتدرائية ضخمة في العصور الوسطى، و The Brutalist مثال على صحة هذه الفكرة، فالفيلم مبني معمارياً كما لو أن صاحبه يرغب بالفعل في بناء صرح عملاق، مثل الذي ينتهي به الفيلم، حتى لو كان صرح الفيلم، والصرح الذي يبنيه بطل الفيلم، مستلهمين من أبنية الهولوكست التي تغلغلت داخل كيان لازلو توث.

وهذه الفكرة التي يختم بها الفيلم تبين مرة أخرى أن السجن والعذاب أصبح داخليا، وليس أدل على ذلك من أن لازلو، حين يصل إلى قاع الإذلال على يد فان بورين، يستدير ليسقط عذاباته على العمال الأبرياء في موقع العمل.

وبغض النظر عن المضمون مرة ثالثة، فإن إنجاز  he Brutalist الحقيقي يتمثل في بنائه الفني المعماري الذي يحاكي أسلوب “البروتاليست”، الذي ظهر في ألمانيا وأوروبا الشرقية بداية القرن العشرين، ويعتمد بالأساس على تقشف وجفاف التصميم وعدم استخدام الزينة أو أي محاولة لإخفاء أو تغطية “عظام” المبنى من حجارة أو حديد أو أخشاب.

يقسم كوربت فيلمه إلى فصول أدبية، أو طوابق معمارية، بادئاً بتمهيد ثم مقسماً حياة شخصياته إلى فترات زمنية، تمتد من 1947 إلى 1980، خاتماً بتذييل. 

وعلى مستوى الصورة يستخدم كوربت طريقة VistaVision ذات الشاشة العريضة والألوان المشبعة، التي ظهرت في بداية خمسينيات  القرن الماضي (مع بداية عمل لازلو في أميركا تقريباً)، والتي ظهرت من بين طرق أخرى لمواجهة ظهور التليفزيون بتجربة مشاهدة سينمائية أكثر إبهارا. ويعتمد الفيلم، بشكل عام، على اللقطات الكبيرة الواسعة، إلا أنه يختار زوايا غير مباشرة للكاميرا، ما يدعم الإحساس بثقل التكوين والطبقات والإطار المحيط بالشخصيات. ويتكامل هذا التصور للسيناريو والتصوير بالموسيقى التصويرية التي وضعها دانيل بلومبرغ، والتي تعتمد على الآلات الوترية الثقيلة، ويحاكي صوت إيقاعها حفارات البناء التي تدق بطن الأرض.

يعوض هذا البناء الفني القوي خلل مضمون الفيلم سابق الذكر، وطول زمن عرضه الذي يدفع إلى الشعور بالملل أحيانا.  

رغم مزاياه، إلا أن The Brutlaist من النوع الذي تكتفي بمشاهدته مرة واحدة، أو على فترات، ولعل ذلك ما دفع بصاحبه إلى تقسيمه إلى جزأين، يفصل بينهما “استراحة” إجبارية، على طريقة أفلام الملاحم التاريخية للخمسينيات!

مع نزول عناوين النهاية قد يعلق سؤال في ذهنك: ماذا وراء هذا البناء العظيم الذي صممه لازلو توث ويظهر في المعرض أثناء تكريمه؟ وماذا وراء هذا البناء العظيم للفيلم الذي تخرج منه مبهوراً، ولكن سرعان ما تكتشف خواءه.

* ناقد فني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *