اخبار تركيا
في ظل تصاعد الخطابات القومية وتراجع الحديث عن وحدة العالم الإسلامي، أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعوة لافتة لإحياء التحالف بين العرب والأتراك والأكراد، معتبرًا أن “اجتماعهم هو مفتاح النهوض، وتفرقهم سبب الخراب”. دعوة أردوغان هذه أعادت إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا: هل لا يزال مشروع “الأمة” ممكنًا في زمن التشرذم والانغلاق؟
الكاتب الصحفي التركي كمال أوزتورك سلّط الضوء في مقال على موقع “الجزيرة نت” على جذور هذا التعايش التاريخي بين شعوب المنطقة، طارحاً نقدًا جريئًا للخطابات القومية التي مزّقت الروابط العميقة بين أبناء الأرض الواحدة.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
كان والدي تركيًّا نزح من القوقاز إلى شرق تركيا، أما والدتي فهي ابنة إحدى القبائل الكردية التي تقطن تلك الأنحاء. وُلدتُ إذًا من زواج تركي بكردية.
ولو ذهبت إلى جنوب تركيا، لرأيتَ آلاف الأشخاص الذين وُلدوا من زواج العرب والأتراك. وفي شمالها، ستجد الزواج بين الأتراك والجورجيين أو اللاز، وفي غربها بين الأتراك والبوشناق أو الألبان، ثم ترى وجوهًا شتى تتنوع ملامحها دلالة على تلك المصاهرات.
قصصٌ كهذه تُروى في العراق، وإيران، وسوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين، ومصر. هذه الأرض، أرض الشعوب التي اختلطت دماؤها وأنسابها عبر التاريخ. وفي كل مرة تُدرس فيها خريطتنا الجينية، تظهر آثار عشرات الأجناس والأعراق.
أسماء أطفالنا مشتركة. الكرد والترك والفرس والعرب يطلقون أسماء بعضهم على أبنائهم. فاسم ابني تركي، واسم إحدى بناتي فارسي، والأخرى اسمها عربيّ.
وأغانينا مشتركة أيضًا. في تركيا كثير من الفنانين الذين يؤدون أغاني فيروز وأم كلثوم وشِفان برور (مغنٍ كردي). ولا أظن أن كرديًا أو عربيًا لا يعرف أغاني إبراهيم تاتليسس.
ما أريد قوله هو أن هذه الجغرافيا تمثل نقطة التقاء لشعوب تمازجت فيما بينها كتمازج اللحم بالعظم. وما حدث على الأرجح إنما بدأ في المئة والخمسين سنة الأخيرة.
فمنذ أن طمعت الدول البعيدة بأرضنا، ونحن لا نعرف للطمأنينة طريقًا. غيّروا كتب التاريخ، وأدخلوا فيها إساءات لشعوب كنا يومًا ما أقرباء لها، ثم علّمونا ذلك وورّثناه لأطفالنا.
أكثر تلك المعلومات إنما دخلت إلى أذهاننا بفعل الألاعيب القذرة للدول الإمبريالية. نجحوا في زرع الفتنة بين العرب والأتراك، وبين الأتراك والأكراد، حتى صار كل منا عدوًا للآخر. صار الكل يتحدث عن عظمة عرقه، ويفرض تفوقه على غيره. يا لها من حكاية حزينة ومخجلة!
لكن ما هو أشد حزنًا من ذلك، أننا جميعًا نؤمن بدين نبيٍّ قال: “لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود…”، ونفتخر بالانتماء إلى أمته. فماذا عساه يقول لنا النبي محمد ﷺ لو جلسنا أمامه وأخذنا نحدثه عن عظمة أعراقنا وتفوقها؟
جميعنا من حيث المبدأ نؤمن بمفهوم “الأمة”، ولا أحسب أن أحدًا يعارض ما كتبته هنا. بل إنني رأيت العرب والكرد والفرس في البلدان التي زرتها، يؤيدون هذه الأفكار بحرارة، ويكثرون من قراءة الآيات والأحاديث عن أخوّة المسلمين.
ثم ماذا يحصل؟ يتهم كلٌّ منا الآخر بأنه هو من أفسد هذه الأخوّة، وكأن أحدًا لا يرى في نفسه خطأ. إن كان الأمر كذلك، فلماذا لا نستطيع بناء تحالفات؟
أغلب المسلمين اليوم باتوا يظنون أن وحدة الأمة والعيش المشترك وأخوة الإسلام لم تعد سوى ضرب من الرومانسية. فيغلقون على أنفسهم الأبواب، ويرسمون الحدود بقلم غليظ، ويباشرون تمجيد الدول القومية.
بلغ بنا التطرف القومي حدًّا غريبًا، حتى صرنا نرى كل قومية تتنازع فيما بينها لتحديد من هو “أصْل العرب”، ومن هو “أصدق الكرد”، ومن هو “الأتقى بين الأتراك”. وهكذا، يأكل التعصب العرقي نفسه في النهاية.
نحن في تركيا هذه الأيام نناقش هذا الموضوع كثيرًا، لأن الرئيس رجب طيب أردوغان ألقى مؤخرًا خطابًا مهمًّا عن تحالف العرب والأتراك والأكراد، قال فيه:
“حين يتحالف الأتراك والأكراد والعرب، تهب نسمات عليلة من بحر الصين إلى الأدرياتيكي تحت وقع سنابك خيولهم. التركي والكردي والعربي، إذا اجتمعوا، وتوحدوا، وتآلفوا، واحتضن بعضهم بعضًا، فها هنا يكون العربي، ويكون الكردي، ويكون التركي.
أما حين يتفرقون، ويختصمون، ويتباعدون، فالهزيمة والخيبة والحزن بانتظارهم. دمرت جيوش المغول أراضي المسلمين، لأن العربي والكردي والتركي كانوا متفرقين. هاجم الصليبيون ديار الإسلام، لأن هؤلاء الأقوام تقطعت أواصرهم. خسرنا الحرب العالمية الأولى، وقُسمت بلادنا، وارتفعت الجدران بيننا. ضاعت القدس لأن الفُرقة كانت سائدة”.
لا أعلم إن كان هناك زعيم في البلاد الإسلامية اليوم يتحدث عن وحدة الشعوب بهذا الوضوح، حتى لو كان كلامه يحمل طابعًا خطابيًّا.
ومع ذلك، رفضت بعض الجهات في تركيا ما قاله أردوغان وانتقدته، وعلّة معظم من انتقده أنهم تلقّوا تعليمهم على يد من اعتنق القراءة الغربية للتاريخ، فصاروا يرددون: “العرب طعنونا في الظهر، والأكراد سعوا لتقسيمنا”.
وأجزم لو أن زعيمًا عربيًّا دعا إلى تحالف مع الأتراك والأكراد، لوجد من بني قومه من يستلّ من المراجع الغربية ذاتها تلك المقولة الشهيرة: “الأتراك هم من أبقى العرب متخلفين وسعى إلى صهرهم”.
لدينا قوالب مسبقة وأحكام جاهزة، ولدينا كذلك أخطاء جسيمة في قراءة التاريخ. وفوق ذلك، هناك مصالح شخصية، وخرائط طريق، ومواقف أنانية لدى الساسة الذين يرفضون أي وحدة بين الشعوب.
إن بدأنا بالإجابة عن سؤال: “لماذا لا نستطيع بناء تحالفات؟” من باب نقد الذات، أمكننا حلّ القضية. أما لو بقينا نتلو فصول التاريخ القديم، ونعدد أخطاء الآخرين، ونعلي من شأن أنفسنا، فلن يبقى سوى الفرقة. نقد الذات هو ما يمكنه أن يجمعنا، وهو السبيل إلى الخروج من الشتات.
لكنني أرى الآن أن القومية المتصاعدة جعلتنا نحن أتباع النبي الكريم ﷺ نقضي أيامنا في التسابق لإثبات تفوق الأبيض على الأسود. أما العقلاء، فمؤثرون للسكوت، يراقبون بصمت.
وعندها، يصبح الميدان فسيحًا للمتطرفين، والشعوبيين، ومن يسيرون على حواف الجنون.
ينبغي أن نتكلم، وأن ندافع عن الرأي السديد بشجاعة. يجب أن يقول المفكرون العرب جهرًا: “لا فضل لعربي على تركي”، وأن يقول المفكرون الأتراك: “لا فضل لتركي على كردي”، أن يكتبوا، ويتحدثوا، ويظهروا أنفسهم. عندها فقط، سنشهد قيام تحالفات حقيقية في منطقتنا.