د. سمير صالحة د. سمير صالحة

زيارة رئيس جهاز المخابرات التركي إبراهيم كالِن لبنغازي لم تكن حدثاً عابراً، بل محطّة فارقة في مسار دبلوماسيّ إقليميّ يعيد تشكيل التوازنات الليبية من بوّابة التقارب التركيالمصري. لم يأتِ هذا الانفتاح من فراغ، بل هو ثمرة تحوّلات متدرّجة ومُنسّقة بدقّة بين أنقرة والقاهرة، ضمن مقاربة براغماتيّة تتجاوز اصطفافات الماضي.

كان الاعتقاد السائد أنّ العلاقة بين أنقرة وبنغازي، التي واجهت تحدّيات كبيرة في الساحة الليبية قبل ستّ سنوات، سيكون من الصعب الخروج منها. لكنّ انخراط أنقرة في شرق ليبيا، الذي كان مستبعداً حتّى وقت قريب، وفتح القاهرة خطوط تواصل مع قيادات غرب ليبيا، أظهرا أنّ التحرّك التركي المصري الذي تسارع خلال العامين الأخيرين ليس احتمالاً وحسب، بل خطوات محسوبة بدقّة وعناية، من حيث التوقيت والدوافع، في التعامل مع الأزمة الليبية.

فشل المنصّات الدولية والإقليميّة في توفير مسار فعّال للحلّ، خلق فراغاً ملأته تفاهمات أنقرة والقاهرة، التي رأت في توازنات الداخل الليبي والمتغيّرات الإقليمية فرصة لا تعوّض لصياغة خارطة طريق مشتركة نحو تسوية النزاع.

جاءت المحصّلة الأولى بعد سنوات من التوتّر والقطيعة. تغيّر الخطاب التركيّ تجاه خليفة حفتر قائد قوّات شرق ليبيا، من وصفه بالانقلابيّ إلى اعتباره جزءاً لا يمكن تجاوزه في أيّ معادلة أمنيّة وسياسية مستقبليّة في ليبيا. وها هي أنقرة تعود إلى شرق ليبيا عبر البوّابة السياسية التي يمثّلها الثنائي عقيلة صالح (رئيس مجلس النوّاب) وخليفة حفتر، في سياق انفتاح إقليميّ شاركت في هندسته القاهرة والرياض وأبو ظبي.

صحيح أنّ الخلافات الليبية الليبية لا تزال عميقة، وأنّ أصابع كثيرة لم تغادر الزناد، لكن لولا هذا الانفتاح لكانت ليبيا غارقة في سيناريوهات سودٍ تسير بها نحو المجهول.

توازنات جديدة على الأرض

أعاد التقارب التركي المصري، تحديداً، رسم التوازنات على الأرض، وقطع الطريق أمام مشاريع التقسيم أوّلاً، ونجح ثانياً في إضعاف نفوذ قوى غربية لطالما لعبت على تناقضات الداخل الليبيّ.

ليبيا أمام مشهد جديد تُعاد فيه خطوط التواصل، لا على قاعدة التحالفات القديمة، بل وفق معادلات براغماتيّة فرضتها ضرورات إقليميّة ودوليّة، ويشير إلى رغبة مشتركة في إعادة ضبط العلاقات بما يتجاوز حسابات الماضي.

لم يكن الانفتاح التركي على شرق ليبيا خطوة رمزية لتجاوز قطيعة سياسية وحسب، بل هو تحرّك مدروس يرتبط بملفّات استراتيجيّة. لكنّ موازنة تركيا لعلاقاتها مع طرفَي النزاع تتطلّب دقّة بالغة وحذراً سياسيّاً. فمحاولة الجمع بين النفوذ في المنطقتين عبر الانفتاح على بنغازي لن تمرّ دون تساؤلات كثيرة في طرابلس، حيث تحتفظ أنقرة بعلاقات وثيقة مع قوى محليّة كانت وما تزال شريكاً مباشراً لها في الغرب الليبيّ.

هل هناك سياسة تركيّة جديدة في ليبيا؟ وإلى أين تتّجه أنقرة بعد كلّ هذه التغيّرات؟

لم تتخلَّ تركيا عن أهدافها الأساسيّة في ليبيا، لكنّها وسّعت مساحة المناورة باتّجاه الداخل الليبي وفي علاقاتها الإقليمية، تاركة جانباً خطابها المتشدّد تجاه خصومها في بنغازي وفي بعض العواصم العربية. هدف حماية اتّفاق ترسيم الحدود البحريّة الموقّع عام 2019 ما يزال قائماً. وتحقيق قبول بنغازي وبرلمانها لهذا الاتّفاق في طليعة الأهداف. هذا إلى جانب رفع مستوى العلاقات السياسية والتجارية مع شرق ليبيا وربطه بمشاريع استثمار تشمل شرق المتوسّط، دون أن يكون ذلك على حساب شركائها في طرابلس الغرب.

بإيجاز أكثر، تتحرّك سياسة تركيا في ما خصّ الشأن الليبي وفق رؤية براغماتيّة توسّع من خيارات أنقرة، وتحمي مصالحها في ظلّ واقع سياسي ليبيّ متحوّل. لا تتخلّى أنقرة عن شركاء الأمس، لكنّها تنفتح على الخصوم، وتفعل كلّ ذلك بالتنسيق مع القاهرة.

زيارات تحمل دلالات

من “السراج في أنقرة وحفتر في القاهرة” إلى “حفتر في تركيا والوفاق في مصر”، على حساب المثل الشعبي “لا يحكّ جلدك مثل ظفرك”، جرت عدّة زيارات مهمّة:

زيارتا رئيس مجلس النوّاب عقيلة صالح لتركيا في آب 2022 وكانون الأوّل 2023.

زيارة نائب وزير الخارجية التركي أحمد يلدز لبنغازي في تشرين الثاني 2023.

زيارة نائب القائد العامّ للجيش الوطني الليبي صدّام حفتر لتركيا في تشرين الأوّل 2024، لحضور معرض “ساها إكسبو” للدفاع والفضاء، وإجراء محادثات مع وزير الدفاع التركي يشار غولر. وقام بزيارة ثانية بدعوة رسمية في نيسان الماضي.

رسوّ الفرقاطة التركيّة “قينالي آدا” في أواخر آب في ميناء بنغازي بعد زيارتها طرابلس، في خطوة رمزيّة واستراتيجيّة تؤكّد الانفتاح التركيّ على جميع الأطراف الليبيّة.

لكنّ المفاجأة الكبرى كانت زيارة رئيس جهاز المخابرات التركي إبراهيم كالِن لبنغازي، حيث التقى خليفة حفتر ونجله صدّام “لمناقشة تعزيز التعاون في المجالات الاستخباريّة والأمنيّة، وتبادل الخبرات”، وتسليم دعوة رسمية لحفتر لزيارة تركيا التي قد تتمّ في الشهر الحالي.

مسار حلحلة في ليبيا؟

منحت المتغيّرات الأخيرة في لعبة التوازنات الإقليمية في منطقتَي الشرق الأوسط والقارّة السمراء، مصر وتركيا فرصة استراتيجيّة، قد لا تعوّض، للمساهمة في تسريع الحلحلة على خطّ الأزمة الليبية.

ستكون تركيا ومصر في طليعة المستفيدين من مسار الحلّ في ليبيا، لأنّه سيرقى إلى مستوى واقع إقليميّ جديد يوفّر لهما الكثير من الفرص الاستراتيجية في شمال إفريقيا وشرق المتوسّط عند إنجاز المهمّة.

ما يجري اليوم بين أنقرة والقاهرة ليس تفاهمات دبلوماسية وحسب، بل هو إعادة ترسيم لتوازنات إقليميّة تُولد من الخاصرة الليبية. وإذا ما نجح الطرفان في الحفاظ على هذا المسار، فقد تكون ليبيا بين ساحات “التحالف البراغماتيّ الجديد” في الشرق الأوسط، وربّما أكثرها تأثيراً في شرق المتوسّط وشمال إفريقيا.

عن الكاتب


شاركها.