نجم الدين أجار كريتيك باكيش

ارتفاع تهديد إسرائيل من المستوى الذاتي/الإدراكيّ إلى المستوى الموضوعي/الواقعي والحاجة إلى تحديث السياسة الخارجية والأمنية التركية.

إن السياسات التوسعية لإسرائيل حوّلت الشرق الأوسط بأسره إلى ما يشبه “ساحة عمليات”، مما زعزع توازنات الأمن الإقليمي بعمق. فقد أظهرت الهجمات التي نُفِّذت في التاسع من سبتمبر في العاصمة القطرية الدوحة، باستهدافها قيادات حماس العليا، أن دول المنطقة تفتقر مرة أخرى إلى قدرة ردع فعّالة ضد التدخلات الخارجية. وهذا الوضع جعل الفراغ الكبير في بنية الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط أكثر وضوحاً.

وإنّ الهجمات الأخيرة وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين تُظهر أن نهج العمليات الإسرائيلية الذي لا يعترف بالحدود لم يعد رد فعل استثنائياً، بل تحوّل إلى استراتيجية دائمة. فحكومة تل أبيب، التي تتحرك بدعم غربي علني، تسعى لإعادة صياغة الوضع القائم الإقليمي بما يتناسب مع أولوياتها الأمنية. ورغم أن هذا النهج يشكل تهديداً أساسياً لدول الشرق الأوسط العربية، إلا أنه سينتج عنه أيضاً نتائج جديرة بالاهتمام بالنسبة لتركيا. إذ إن العلاقات بين أنقرة وتل أبيب تحوّلت في الآونة الأخيرة إلى لعبة “مجموع صفري”، حيث يعني ربح طرفٍ خسارةَ الطرف الآخر.

إن الترتيب الجديد الذي سينشأ نتيجة سعي إسرائيل لتحويل الوضع القائم الإقليمي وفقاً لمصالحها وأولوياتها، سيهدد بشكل مباشر المصالح الاستراتيجية لتركيا. وعليه، فإن تجاهل أنقرة لهذا المسار أمر غير ممكن. ورغم أن دول الشرق الأوسط العربية تبدو نظرياً وكأن لديها رؤية للدفاع الجماعي، إلا أن التجارب التاريخية تُظهر فشل هذه الدول في بناء ردع عسكري دائم وقوي. وتكشف هذه الصورة أن استراتيجية إسرائيل في تشكيل الوضع القائم وفقاً لأولوياتها الأمنية لا تواجه أي عائق جاد في المنطقة.

في الماضي، كانت قد تمكنت أنقرة من إفشال محاولات تغيير النظام الإقليمي ضد مصالحها عبر ردود فعل حازمة. وأحد أبرز التحولات في السياسة الخارجية التركية كان قد وقع خلال الحرب الأهلية السورية؛ إذ إن تركيا، ولأول مرة منذ عملية السلام في قبرص، غيّرت قواعد “الاشتباك” وظهرت بقوة عسكرية نشطة خارج حدودها. لكن مع هجمات إسرائيل في التاسع من سبتمبر، تم تجاوز عتبة مختلفة وأكثر خطورة. وعليه، فإن العمليات التي تبثها إسرائيل في المنطقة تجعل من إعادة هيكلة عميقة لفهم تركيا للأمن والسياسة الخارجية أمراً لا مفر منه. باختصار، إنّ أحجار الشرق الأوسط تتحرك من جديد، وتركيا مضطرة للتموضع في قلب هذه اللعبة.

البحث عن وضع إقليمي جديد وتوازن تركياإسرائيل

منذ تأسيس الجمهورية، فضّلت تركيا لسنوات طويلة اتباع سياسة داخلية وتجنّبت التدخل المباشر في تطورات الجغرافيا المجاورة لها. وحتى أوائل العقد الأول من الألفية، تبلورت السياسة الخارجية والأمنية التركية أساساً حول التموضع داخل المعسكر الغربي وترسيخ هذا التموضع. وقد شكّل الاندماج مع حلف الناتو والمنظمات الأمنية الغربية الأخرى الركيزة الأساسية للاستراتيجية الأمنية التركية.

لكنّ موقف الحلفاء الغربيين المتجاهل لحساسيات تركيا الأمنية خلال الحرب الأهلية السورية، وعدم فاعلية الضمانات الأمنية الغربية، فرض تحوّلاً جذرياً في السياسة الخارجية والأمنية التركية. فخلال هذه الفترة اتخذت تركيا سلسلة من التدابير لموازنة التهديدات القادمة من سوريا تجاه أمنها القومي. ونتيجة لذلك، تبنت أنقرة مجموعة جديدة من قواعد الاشتباك بحيث تتيح تنفيذ عمليات عسكرية واستخبارية خارج حدودها الوطنية. وفي الوقت ذاته، وقّعت اتفاقيات مع روسيا في مجال أنظمة الدفاع الجوي ضمن إطار بحثها عن بدائل أمنية.

من جهةٍ أخرى، فإنّ قواعد الاشتباك التي تم تحديثها عام 2012 بهدف موازنة التهديدات القادمة من سوريا، وإن كانت تتيح بُعداً من العمليات العسكرية والاستخبارية خارج الحدود الوطنية، إلا أنها كانت ذات طبيعة دفاعية تركز على التهديدات الموجهة إلى الحدود الوطنية. ولذلك كان من الطبيعي أن تكون هذه المقاربة غير كافية للاستجابة للتحولات الجذرية في الوضع الإقليمي.

لكن بعد التاسع من سبتمبر، ومع وصول التهديد الإسرائيلي إلى مستوى واقعي/موضوعي وليس إدراكياً فحسب، فقدت قواعد الاشتباك التي تبنتها تركيا قبل عقد والتي كانت يغلب عليها الطابع الدفاعي صلاحيتها. وفي المرحلة الراهنة، هناك حاجة عاجلة إلى استراتيجية خارجية وأمنية أكثر فاعلية وتوافقاً مع احتمالات عدم الاستقرار، وذلك لمواجهة قدرة إسرائيل على تحويل الوضع الإقليمي ضد تركيا. لقد انتهى العصر الذي يمكن فيه لتركيا حماية أمنها القومي بمجرد إظهار الوجود العسكري جنوب جبال الأمانوس.

إن عدوانية إسرائيل الجامحة بعد السابع من أكتوبر، وإن لم تستهدف تركيا بشكل مباشر في الوقت الراهن، تهدف فعلياً إلى إعادة تشكيل النظام الإقليمي كله بما يخدم مصالحها. وكانت صورة “درع إبراهيم” المعلّقة في شوارع تل أبيب خلال الأسابيع الماضية بمثابة تجسيد لخطة الوضع القائم الإقليمية التي تتمحور حول إسرائيل. وإذا نجحت هذه الخطة، فستؤدي حتماً إلى نتائج خطيرة ضد المصالح الاستراتيجية لتركيا.

لقد تحوّلت تل أبيب إلى قوة مقررة على الأنظمة السياسية في سوريا ولبنان بفضل آليات الضغط العسكري والاقتصادي التي أقامتها. فاليوم، تمثّل قدرة إسرائيل على فرض أجندة نزع سلاح حزب الله على الحكومة اللبنانية مؤشراً ملموساً على بلوغها مرحلة متقدمة في سياسة إعادة تصميم الجنوب اللبناني وفقاً لأولوياتها الأمنية. وبالمثل، فإن وصولها إلى قدرة تمنع الإدارة الجديدة في دمشق من بناء هيكل مركزي قوي بفضل نفوذها على الدروز و”قَسَدْ/ الوحدات الكردية”، يثبت أن إسرائيل تملك إمكانات لإعادة تشكيل النظام الإقليمي بأسره وليس حصر نفسها في القضية الفلسطينية.

لقد أظهرت هجمات الدوحة أن القوة التي اكتسبتها إسرائيل في المنطقة لن تبقى مقتصرة على سوريا ولبنان. ومع الوقت، قد تمتد هذه التأثيرات إلى الأردن ومصر ودول الخليج، وهو ما قد يجلب عزلة إقليمية لتركيا. وسيضعف هذا المشهد ليس فقط فاعلية أنقرة في الشرق الأوسط، بل سيؤدي أيضاً إلى تطويق تركيا جيوسياسياً وجيواقتصادياً وجيواستراتيجياً. وعند النظر إلى اللعبة الصفرية بين تركيا وإسرائيل، فإن الوضع الإقليمي المتشكل وفقاً لأولويات إسرائيل الأمنية سيفسح المجال لظهور أنظمة معادية لتركيا وانتشار مواقف سياسية مناوئة لأنقرة في المنطقة.

لذلك، ينبغي على تركيا، ضمن قواعد الاشتباك التي ستحدثها في المرحلة الجديدة، أن تعتبر العمليات العسكرية التي تبثها إسرائيل في المنطقة تهديداً مباشراً لأمنها القومي. وفي هذا السياق، يتعيّن على أنقرة ألا تكتفي بحماية مصالحها الوطنية فحسب، بل أن تشجع أيضاً دول الشرق الأوسط العربية وخاصة العراق وسوريا على اتخاذ موقف مشترك ضد عدوانية إسرائيل، وأن تعمل على تقوية القدرات العسكرية والصناعية لهذه الدول لعرقلة التغييرات الجذرية التي تخطط لها إسرائيل في الوضع الإقليمي. وكما قادت تركيا في الماضي تحالفات ضمّت إيران وباكستان والعراق ضد التوسع السوفيتي، يمكنها اليوم القيام بمجهود مماثل لموازنة النزعة التوسعية الإسرائيلية.

الالتزامات الاستراتيجية لتركيا في مواجهة فرض إسرائيل للوضع الإقليمي

إن سياسة إسرائيل القائمة على تحويل الوضع الإقليمي وفقاً لأولوياتها الأمنية جعلت من المراجعة الجذرية في السياسة الخارجية والأمنية التركية أمراً لا مفر منه، فلم تعد خياراً. ويمكن تناول المعايير الأساسية للتحول الاستراتيجي الذي ينبغي أن تتبعه أنقرة تحت أربعة عناوين رئيسية:

1.أولاً؛ يجب أن يشهد تصور التهديد في تركيا تحوّلاً جذرياً. فقد تركزت سياسات أنقرة الأمنية لسنوات طويلة حول إرهاب حزب العمال الكردستاني و الوحدات الكردية والحرب الأهلية السورية، والتوترات في شرق المتوسط. لكنّ عدوانية إسرائيل الإقليمية المتزايدة تفرض إعادة تعريف هذه الأولويات. إذ إن مساعي إسرائيل لتحويل الوضع القائم الإقليمي بشكل جذري ضد تركيا لم تعد تشكل تهديداً غير مباشر، بل تحولت إلى تهديد مباشر. وهذا يفرض انكساراً حرجاً في العقيدة الأمنية التركية. وينبغي أن يحدث انتقال من مقاربة “التهديد المتمحور حول الإرهاب”، التي سيطرت على مفهوم الأمن لوقت طويل، إلى مقاربة “التهديد المتمحور حول الدولة” بشكل أكثر وضوحاً.

2.ثانياً؛ أصبح تجديد العقيدة العسكرية ضرورة لا يمكن تأجيلها. فإمكانات إسرائيل العملياتية بعيدة المدى والمدعومة استخباراتياً أظهرت أن تركيا لا يمكنها الاكتفاء بقدراتها على العمليات عبر الحدود. وإنّ هذا الواقع يجعل من الضروري إعادة بناء توازن جديد في الفهم الدفاعي للجيش التركي. فبنية دفاع جوي أقوى، وردع صاروخي متطور، وقدرات متقدمة في الحرب الإلكترونية باتت احتياجات لا يمكن تأجيلها لأمن تركيا. بالتالي، يتعين على أنقرة أن تبني ردعها تجاه إسرائيل ليس على التفوق العددي فحسب، بل على “توازن تكنولوجي” أيضاً.

3.ثالثاً؛ أصبح إعادة تموضع التحالفات الإقليمية لتركيا أمراً لا مفر منه. فاستهداف إسرائيل لقطر في الجغرافيا الخليجية يجعل من الحتمي على أنقرة أن لا تكتفي بالحفاظ على شراكتها الأمنية والدفاعية مع الدوحة، بل أن تطورها إلى مستوى أبعد. ويجب أن يتم تعميق هذا التعاون من خلال آليات ملموسة مثل المناورات العسكرية المشتركة، ومشاريع أمن الطاقة، وتقاسم التكنولوجيا في الصناعات الدفاعية.

إضافة إلى ذلك، فإن تعرض لبنان والأردن لضغوط أمنية متزايدة يفرض على تركيا تطوير حوارات أمنية ذات طابع مؤسساتي أكثر مع العالم العربي. وينبغي ألا تقتصر هذه الحوارات على الاتصالات الدبلوماسية فقط، بل أن تُدعَم بمنتديات أمنية، وتبادل استخباري، وتعاون في أمن الحدود، وآليات إدارة أزمات مشتركة. بذلك، يمكن لأنقرة أن تملأ الفراغات التي خلقتها إسرائيل في البنية الأمنية الإقليمية، وأن تجعل المجتمعات العربية ترى في أنقرة شريكاً أمنياً. ويجب أن تُستحضر تجربة تركيا التاريخية في قيادة “ميثاق سعدآباد” و”حلف بغداد” لمواجهة التوسع السوفيتي. أما في الظروف الراهنة، فإن قيادة تحالف عسكري إقليمي واسع النطاق ضد التوسع الإسرائيلي لم يعد مجرد خيار، بل أصبح ضرورة استراتيجية.

كما اكتسبت العلاقات مع مجلس التعاون الخليجي أهمية خاصة في هذا السياق. فينبغي أن تُخرج تركيا وضعها الحالي كـ “مراقب” من مجرد موقع رمزي، وأن تتحول إلى فاعل نشط يساهم مباشرة في عمليات إدارة الأزمات، والتنسيق الدفاعي، وأجندة السياسة الخارجية للمجلس.حيث سيوفر هذا التحول لتركيا موقعاً داخل المعادلة ليس في الخليج فقط، بل في كامل البنية الأمنية العربية.

4.وأخيراً؛ بات البعد المعياري في السياسة الخارجية التركية ضرورة لا مفر منها. إذ يتعين على أنقرة أن تبرز خطابها القائم على حقوق الإنسان والقانون الدولي بشكل أقوى وأشد في مواجهة هجمات إسرائيل المباشرة على المدنيين. ولن يكون مثل هذا الخطاب موقفاً يتعلق بالقضية الفلسطينية فحسب، بل سيوفر أيضاً أساساً استراتيجياً لبناء “كتلة مناهضة للتعديلية” على نطاق إقليمي.

إن الاستراتيجية الأمنية الجديدة لإسرائيل القائمة على العدوانية والقدرات العملياتية تهزّ التوازنات القائمة في الشرق الأوسط من جذورها، وتتحول في الوقت نفسه إلى تحدٍّ مباشر بالنسبة لتركيا. ومع هجمات الدوحة، لم يعد التهديد الإسرائيلي “ذاتياً /إدراكيّاً” في الأدبيات الأمنية الإقليمية، بل أصبح “موضوعياً/واقعياً”. وفي مثل هذا السياق، لن يكون تمسك أنقرة بقواعد الاشتباك الحالية وفهم الردع الدفاعي كافياً بعد الآن.

وعلى تركيا أن تدير هذه المرحلة الجديدة ليس فقط عبر ردود فعل إدارة الأزمات، بل عبر: مراجعة تصور التهديد، وإعادة بناء العقيدة العسكرية على أساس التوازن التكنولوجي، وتعميق التحالفات الإقليمية بشكل مؤسساتي، واستخدام خطاب معياري كأداة استراتيجية بشكل أقوى. وهكذا، سيسمح هذا التحديث لتركيا بتعزيز أمنها القومي، وفي الوقت ذاته ترسيخ موقعها كفاعل مؤسس ورائد في البنية الأمنية الإقليمية.

باختصار، في هذه المرحلة التي تتحرك فيها أحجار الشرق الأوسط من جديد، تتضاءل الخيارات أمام تركيا. فلم يعد أمام أنقرة سوى طريقين: إما أن تصبح عنصراً سلبياً في الوضع الإقليمي الذي صاغته إسرائيل وفقاً لأولوياتها، أو أن تتحول إلى فاعل مؤسس للنظام الإقليمي عبر خطوات استراتيجية نشطة ومتعددة الطبقات. وهذا الخيار لن يحدد حاضر تركيا فقط، بل سيحدد أيضاً مستقبلها الجيوسياسي على المدى الطويل.

شاركها.