اخبار تركيا
رأى الكاتب والإعلامي التركي إبراهيم قاراغول، أن إسرائيل تهاوت وسقطت كل أطروحاتها وخطاباتها، حتى غدت كيانًا بلا معنى، وأنها أشعلت موجة كراهية عالمية ضد اليهود، لتنهار بذلك أسطورة “الضحايا المظلومين الذين تعرضوا للإبادة” التي روِّجت منذ الحرب العالمية الثانية.
وقال قاراغول في مقال بصحيفة يني شفق إن “إسرائيل انتحرت، ولن يستطيع أحد إنقاذها بعد الآن… وانخرط الناس، أفرادًا وجماعات، فيما يمكن وصفه بأعظم وأصدق ردّة فعل عرفتها البشرية. فقد تجاوزوا اختلافات الدين واللغة والعرق والانتماء السياسي، وتحركوا بدافعٍ واحدٍ هو إنسانيتهم الخالصة”.
وفيما يلي نص المقال:
من تشيلي إلى كولومبيا، ومن كوبنهاغن إلى مدن إسبانيا، ومن المغرب إلى الولايات التركية الإحدى والثمانين، ومن جميع عواصم أوروبا، خرج مئات الآلاف إلى الشوارع.
حتى في البلدان الداعمة للولايات المتحدة وإسرائيل، هرعت الجماهير إلى الساحات غاضبة، وحتى في الدول التي تكاد تنعدم فيها الحساسية السياسية، خرجت الحشود تسير من أجل فلسطين. الملاعب التي امتلأت بعشرات الآلاف كانت تهتف باسم “غزة”.
إسرائيل انتحرت، ولن يستطيع أحد إنقاذها بعد الآن…
انخرط الناس، أفرادًا وجماعات، فيما يمكن وصفه بأعظم وأصدق ردّة فعل عرفتها البشرية. فقد تجاوزوا اختلافات الدين واللغة والعرق والانتماء السياسي، وتحركوا بدافعٍ واحدٍ هو إنسانيتهم الخالصة.
منذ نشأتها، تهاوت إسرائيل وسقطت كل أطروحاتها وخطاباتها، حتى غدت كيانًا بلا معنى. لم يعد هناك من يصغي إليها أو يطرق بابها. فقدت شرعيتها كدولة في نظر الإنسانية، وكانت الإبادة التي ارتكبتها في غزة بمثابة انتحارها السياسي والأخلاقي. ومن هذه اللحظة فصاعدًا، لن تُعَد بأي حال من الأحوال ضمن مصاف الدول.
أشعلت إسرائيل موجة كراهية عالمية ضد اليهود، لتنهار بذلك أسطورة “الضحايا المظلومين الذين تعرضوا للإبادة” التي روِّجت منذ الحرب العالمية الثانية. وحلت مكانها صورة مجتمع يهودي معادٍ للإنسانية، يبثّ الشر في أرجاء الأرض، ويستقوي بالقوة العسكرية الأميركية لابتزاز البشرية وتهديدها، بعد أن فقد كل أساس أخلاقي يبرّر وجوده.
غزة غيّرت العالم
وأعادت تشكيل إنسانية البشر
يمكننا القول بوضوح: منذ عام 1948، لم تواجه إسرائيل مثل هذا الغضب تجاه مذابحها وإرهابها. إنه حدث مفصلي لن يكون له رجعة. فكل ما ستفعله من جنون بعد الآن لن يطيل عمرها، بل ستُعتبر حتى من “أصدقائها” تهديدًا قائمًا.
لقد غيّرت غزة العالم. بشعبها الذي قاوم بآلامه، وبموته، وبصموده وصبره وتوكله، أصبحت غزة مثالاً يحتذى، وقوة تُحرّك الجماهير. لأنها ذكّرتنا جميعًا بإنسانيتنا العارية البسيطة، بعيدًا عن المناصب والطبقات.
إسرائيل لن تستطيع كسر هذا السيل البشري
وسيهزمها مئات الآلاف
إن تحرك المئات من الناس عبر عشرات القوارب من بلدان مختلفة باتجاه غزة، لم يكن سوى البداية. فحشود أعظم ستأتي من البحر والبر لتقف في وجه إسرائيل. وليس لدى إسرائيل أي قدرة على منع ذلك، ولا على إيقاف هذا الطوفان الإنساني.
إن لجوء إسرائيل إلى أعمال القرصنة في المياه الدولية للبحر المتوسط، وخطف هؤلاء الناس، واحتجازهم وتعذيبهم وإهانتهم، لم يؤدِّ إلا إلى زيادة الكراهية ضدها، وسيزيدها أكثر. هؤلاء الناس سيعودون إلى بلدانهم ليروا كل شيء، والعالم الذي يعرف حجم المذابح في غزة سيحكم على إسرائيل بأنها “دولة لا مكان لها على وجه الأرض”. وقد فعل ذلك فعلاً.
ومن الآن فصاعداً، لن تكون هناك خمسون سفينة، بل خمسمئة؛ ولن يكون هناك مئات، بل آلاف الأشخاص سينظمون أنفسهم لمواجهة هذه الدولة المارقة، عصابة الإرهاب التي يحميها النظام الدولي المتمحور حول الولايات المتحدة. ومع كل محاولة، ستزداد الحشود عدداً، ولن يكون لإسرائيل قدرة على وقفها. من سيكسر مقاومة إسرائيل هم مئات الآلاف الذين يملؤون الساحات.
السلام يجب أن يُفرض بالقوة
والحرب هي التي ستؤدبهم
سوف يُطردون من البلدان
ما دامت إسرائيل موجودة، فالحرب موجودة. ولن يكون هناك سلام. هناك مجتمع يلوّث جغرافية الأمم الكبرى في الشرق الأوسط ويدفع البشرية نحو الكارثة. لذا يجب فرض السلام بالقوة. وإذا لم يفهموا ذلك، فعليهم أن يُجبروا بالقوة على الركوع، ويجب السيطرة على الأمة اليهودية التي تغذي هذا التوحش.
النظام الذي أقاموه منذ الحرب العالمية الثانية بدأ ينهار وسينهار. ومن أجل راحة البشرية ومستقبل الإنسان، يجب أن يُهدم هذا النظام. لن يكون هناك بعد الآن أي آلية أو درع يحميهم. لقد أظهروا من الشرور ما يجعلهم يُطردون اليوم من المطاعم والمطارات، وغدًا سيُطردون من الدول.
انتهى قوس القرن العشرين
بلغت إسرائيل نهاية الطريق
للمرة الأولى في التاريخ، برزت تركيا كقوة تستطيع كبح جماح إسرائيل. الدولة التي كانت تُعرف بأنها “صديقة لإسرائيل” رأت الخطر هذه المرة، وبدأت بخطوات طبيعية لإزالته. وسيستمر مجرى التاريخ على هذا النحو. لأن الخلاف بين تركيا وإسرائيل لا يقتصر على غزة وحدها.
فنحن في مواجهةٍ دائمة مع إسرائيل في كل ما نفعله ضمن نطاق جغرافيتنا الطبيعية، ولن يتبدّل هذا الصراع ما لم تتبدّل رؤيتنا للمنطقة. فبهذه الصورة، لم يكن القرن العشرون سوى مرحلةً مؤقتة أُتيح فيها لإسرائيل أن تعيش، لكن ذلك الفصل أُغلق الآن، ولم يعد لها موطئ قدمٍ في هذا العصر. ومهما بدا ذلك “متطرفًا”، فإن الحرب بين تركيا وإسرائيل أمرٌ لا مفرّ منه.
خطة ترامب نتنياهو:
لكننا لم نكن قد رأينا بعد “خطة تركيا”!
بينما كانت الملايين في الميادين تحاول وقف الإبادة، أُعلن عن صفقة ترامبنتنياهو التي رُوِّجت بوصفها وسيلة لوقف المجازر، لكنها في الواقع تمنح غزة لإسرائيل. أثار العرض غضبًا عارمًا؛ وتساءل الناس: ماذا يجري؟ بعد المآسي بدا أن الخطة تستهدف القضاء على غزة، وإسقاط حماس، وتفريغ القطاع من مضمونه البشري والمادي، وتسليمه لإسرائيل.
حتى حادثة اختطاف المشاركين في الأسطول البحري بدت وكأنها جزء من خطة كبرى تصب في مصلحة إسرائيل! لكننا لم نكن قد رأينا بعد خطة تركيا، ولا رد حماس.
غير أن جواب حماس الحكيم، وسياستها الدقيقة، غيّرا اتجاه الرياح. فقد أعلنت حماس أنها ستسلّم السلاح لسلطة فلسطينية لإدارة البلاد، وأن الأسرى سيُفرج عنهم، وأنها مستعدة للتفاوض مع ترامب حول كل القضايا لإنهاء الاحتلال.
بلقاء أردوغان وترامب
تغيّر شيء وانكسر مخطط
كان من الواضح أن هذا الرد صيغ بحكمة كبيرة، وأن خطة تركيا انعكست فيه. فقد قلب إسرائيل فجأة إلى الجهة الأخرى من الطاولة. وردّ ترامب سريعًا على إعلان حماس دون انتظار توجيه من إسرائيل قائلاً: “يجب على تل أبيب إيقاف الهجمات”. فتحوّل الأمر إلى مفاوضات بين ترامب وحماس، وهو ما يُعد إنجازًا دبلوماسيًا كبيرًا.
حدث ما حدث خلال اللقاء الأخير بين الرئيس أردوغان وترامب. لا نعرف التفاصيل، لكن من الواضح أن شيئًا تغيّر هناك، وأن أردوغان قدّم مقترحات تُخلّص ترامب من ألاعيب إسرائيل. ربما قال له شيئًا مثل: “أنهِ الاحتلال وسنقوّي موقفك”. ربما فُتح أفق جديد، وطُرح طريق مختلف عن السردية الإسرائيلية.
الرد الذي قدمته حماس للولايات المتحدة يحمل بصمة دبلوماسية بارعة، ومن الواضح أن من كتبه فكّر في المراحل التالية.
دول كبرى، وزعماء أقوياء
هكذا تُقام “الطاولات” الآن!
محاولات إسرائيل لخداع ترامب وسائر دول المنطقة ستستمر. لكن من الصعب أن تنجح، رغم أن هؤلاء القتلة سيحاولون تخريب ما جرى حتى الآن. لقد انتهى نتنياهو كقاتل ومجرم إبادة، وعُزلت إسرائيل عن العالم، ولن تستطيع التخلص من وصمة “الإبادة الجماعية”.
الشرق الأوسط ممر دبلوماسي معقّد ومظلم استنزف الكثير من رؤساء الولايات المتحدة. هنا، أربع وعشرون ساعة قد تغيّر المعادلات: ما يُحاك مساءً قد يُلغى صباحًا.
أعتقد أن ترامب يناقش مع أردوغان كل ما يخص منطقتنا. فهو يعلم أن تركيا هي القوة المحورية، وأن كل ما يُحلّ معها يكون طويل الأمد. وبحسب رؤيته، فإن هذه المنطقة تُدار بالحوار بين الولايات المتحدة وتركيا.
تذكّروا: نحن في زمن “الدول الراعية” و”الزعماء الأقوياء”. وترامب يسعى جاهدًا لارتداء زي “الزعيم القوي”. ومن هذه الزاوية، تتضح صورة المشهد أكثر.
إذا استمرت إسرائيل على هذا النهج، ستقع الحرب!
وتركيا لن تبقى صابرة!
ما الذي يمكن أن يحدث بعد الآن؟ سيستمر التعاطف مع غزة، والضغط الشعبي سيتزايد، وستُخنق إسرائيل سياسيًا. في إطار خطة السلام، قد تنسحب إسرائيل وتُرسل المساعدات وتبدأ أعمال الإعمار. أو قد تُفشل كل شيء وتُعيد إطلاق نموذج جديد من المجازر.
وحينها، لن تستطيع الولايات المتحدة إنقاذ نتنياهو، بل ستتخلص منه، وسيبدأ عهد محاسبة المجرمين على الإبادة. ففي الساعات الثمان والأربعين الماضية وحدها، استُشهد 94 مدنيًا في غزة، ولم تتوقف الهجمات الإسرائيلية أبدًا. الجميع ينتظر تطبيق وقف إطلاق النار، لكن كل يوم يمرّ بالغ الأهمية.
إذا استمرت إسرائيل بهذا الشكل، فالعلاقات بين تركيا وإسرائيل ستتدهور من أزمة إلى مواجهة مباشرة. لأن هذا يتعلق بالجغرافيا، وتركيا عادت لتكون القوة التي تعيد بناء نفسها. وليس لإسرائيل قدرة على الوقوف في وجه ذلك.
أردوغان لن يترك غزة بلا سند!
ما دام الرئيس أردوغان موجودًا، فلن تبقى غزة بلا سند. وما دامت تركيا موجودة، فلن تبقى فلسطين بلا نصير. من الآن فصاعدًا، ستكون حكمة تركيا الممتدة عبر قرون هي العامل الحاسم في المنطقة الكبرى. كل خطوة يتخذها الرئيس أردوغان تُظهر نتائجها بمرور الوقت. قد لا تُفهم في البداية، لكنها تؤتي ثمارها لاحقًا. وهكذا سيكون الأمر هنا أيضًا.
سنواصل النضال. سنملأ الساحات، ونعبر البحار، ونواصل عزل إسرائيل في كل أنحاء العالم. وتركيا ستعرف جيدًا كيف تخطو خطواتها القادمة. فكل خطوة تُتخذ تستند إلى جينات سياسية عميقة الجذور، قوية كقوة السلاجقة والعثمانيين.
لم يعد لإسرائيل مكان في المشهد المعاصر
فكما فُتحت آيا صوفيا، ستُحرَّر القدس!
يجب ألا ننسى أبدًا: أُغلق قوس القرن العشرين، وعاد التاريخ إلى مجراه الطبيعي. انتهى عمر إسرائيل والعناصر الغريبة عن المنطقة. ولن يبقى أمام إسرائيل سوى أن تركع أمام تركيا. فذلك هو سبيل بقائها الوحيد. وإلا فلن تكون هناك إسرائيل في الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين.
فالرجل الذي أعاد فتح آيا صوفيا بعد ستة وثمانين عامًا، يحمل في ذهنه خطة لتحرير القدس وتسوية حسابات عام 1917.
إن التاريخ والجغرافيا يُعاد تشكيلهما وفق ظروف اليوم، وهذا التشكيل لا يقتصر على موازين القوى، بل يُبنى أيضًا على ذاكرة الشعوب والمدن، وعلى الجينات السياسية المتوارثة عبر القرون.
وعندما ننظر إلى غزة والقدس، ونتأمل خطة تركيا، يجب ألا ننسى مدى تأثير هذه العوامل في صياغة المشهد.