اخبار تركيا

تناول تقرير للكاتب والأكاديمي التركي محمد رقيب أوغلو، تحليلاً شاملاً للتداعيات الاقتصادية المترتبة على السياسات التوسعية لإسرائيل منذ اندلاع عدوانها على غزة في 7 أكتوبر 2023، وصولاً إلى فتح جبهة المواجهة مع إيران في يونيو 2025.

ويسلط التقرير الضوء على الانكماش الحاد في نمو الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع الاستهلاك والاستثمار، والتقلبات في الأسواق المالية، إلى جانب تدهور التصنيفات الائتمانية وثقة المستثمرين.

كما يناقش ارتفاع الإنفاق الدفاعي واتساع عجز الموازنة، والضغوط التضخمية الناتجة عن رفع الضرائب وتآكل الاستقرار المالي.

ويخلص إلى أن إسرائيل، رغم استمرارها في شن عمليات عسكرية على جبهات متعددة، تواجه تكاليف اقتصادية متصاعدة تهدد بتقويض استقرارها الاقتصادي على المدى المتوسط.

وفيما يلي نص التقرير الذي نشرته مجلة كريتيك باكيش التركية الفكرية:

برزت الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة منذ 7 أكتوبر 2023، والهجمات التي شنتها على إيران بدءًا من 13 يونيو 2025، كصدمات جيوسياسية أثرت مباشرة على الاقتصاد الإسرائيلي. خلال هذه الفترة، أصدر البنك المركزي ومؤسسات التصنيف الائتماني الدولية إشارات متشائمة بشأن التوقعات الاقتصادية، وشهدت الأسعار وأسواق الصرف والأسواق المالية تقلبات كبيرة. وبالتالي، فإن السياسات التوسعية للكيان الصهيوني بقيادة نتنياهو ألحقت ضررا كبيرا باقتصاده.

التأثير على نمو الناتج المحلي الإجمالي

انكمش الاقتصاد الإسرائيلي في الربع الأخير من عام 2023 بأكثر من 20% على أساس سنوي بسبب تأثيرات الإبادة الجماعية في غزة. ووفقًا للبيانات الرسمية، انخفض الدخل القومي في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2023 بنسبة 20.7% على أساس سنوي مقارنة بالربع السابق. خلال هذه الفترة، انخفضت نفقات الاستهلاك بنسبة 27%، وأجلت الشركات خطط الاستثمار، وتراجعت الصادرات. على مدار عام 2023 ككل، اقتصر نمو الناتج المحلي الإجمالي على 2.0% (أقل بكثير من نسبة 6.5% في عام 2022). بسبب تعطيل الحرب للنشاط الاقتصادي، تعرض الاقتصاد لضربة كبيرة في عام 2023. على سبيل المثال، أدى تجنيد حوالي 300 ألف جندي من الاحتياط في أكتوبر إلى انضمام ما يقرب من 18% من القوى العاملة كضباط احتياط، مما تسبب في نقص في الاستهلاك والعرض العمالي. امتدت تأثيرات هذه الصدمة إلى عام 2024. في حين توقع البنك المركزي في بداية عام 2024 انتعاشًا معتدلًا بنسبة 2.0%، إلا أنه اضطر إلى مراجعة هذا التوقع ثلاث مرات خلال العام بسبب استمرار الحرب، وركود الاستهلاك الخاص، وارتفاع الإنفاق الدفاعي الذي حد من الاستثمارات العامة. انخفضت توقعات النمو من 2.0% في البداية إلى 1.2% في مارس، ثم إلى 0.6% في يونيو 2024. وسجل النمو الفعلي في نهاية عام 2024 نسبة 0.4% فقط، مما يشير إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي وصل فعليًا إلى نقطة التوقف. مع دخول عام 2025، توقع البنك المركزي انتعاشًا بنسبة 3.03.5% بافتراض انتهاء الصراع في النصف الأول من العام. لكن مع توسع الحرب لتشمل الجبهة الإيرانية واهتزاز ثقة المستثمرين الدوليين، تمت مراجعة هذه التوقعات أيضًا. بحلول يونيو 2025، بلغ توقع البنك المركزي للنمو 1.4%. وبالمثل، خفض صندوق النقد الدولي توقعاته من 2.7% إلى 1.5%، بينما حذرت مؤسسات مثل فيتش وستاندارد آند بورز من أن “النمو قد ينخفض إلى أقل من 1% إذا استمر الصراع في النصف الثاني من العام”. بسبب عدم اليقين في استثمارات القطاع الخاص، والتردد المستمر في إنفاق المستهلكين، وتحويل الموارد العامة إلى الدفاع، يواجه النمو الاقتصادي ضغوطًا من جانب العرض والطلب على حد سواء. ولا سيما أن قطاع التكنولوجيا المتقدمة والصناعات الموجهة للتصدير لا تزال تتأثر سلبًا بتعبئة القوى العاملة والمخاطر الجيوسياسية. بالإضافة إلى ذلك، تؤدي زيادة الضرائب والانقطاع في الإنفاق العام إلى مزيد من الحد من الطلب المحلي.

من ناحية أخرى، لا تزال المخاطر قائمة فيما يتعلق بالاستقرار الاقتصادي الكلي لإسرائيل. ظل التضخم تحت ضغط تصاعدي في ظل ظروف الحرب؛ حيث ارتفع التضخم السنوي إلى 3.8% في يناير 2025، وظل أعلى من المستهدف (13%) بسبب عوامل مثل زيادة الضرائب (رفع ضريبة القيمة المضافة من 17% إلى 18%) وقيود العرض. يتوقع البنك المركزي أن التضخم سيشهد اتجاهًا تصاعديًا في النصف الأول من العام، ثم ينخفض مرة أخرى في الربع الأخير. أدى عدم اليقين السياسي وإنفاق الحرب إلى الحذر في السياسة النقدية. حافظ البنك المركزي الإسرائيلي على سعر الفائدة عند 4.5% بدءًا من ديسمبر 2024، مؤكدًا على المخاطر الجيوسياسية وزيادة التكاليف. في هذه الظروف، تصرفت الشركات والمستهلكون بحذر وقلصوا إنفاقهم؛ ولم يشهد الاستهلاك الخاص والاستثمارات الثابتة انتعاشًا كاملاً بعد.

التصنيف الائتماني الدولي وثقة المستثمرين

قامت مؤسسات التصنيف الائتماني الموثوقة بخفض تصنيف إسرائيل، مشيرة إلى استمرار الحرب والمخاطر الإقليمية. خفضت فيتش التصنيف الائتماني من A+ إلى A في أغسطس 2024، وتركت التوقعات “سلبية”. كما خفضت موديز التصنيف بدرجتين إلى Baa1 في سبتمبر 2024 وغيرت التوقعات إلى سلبية أيضًا. أكدت ستاندرد آند بورز التصنيف عند A/A اعتبارًا من مايو 2025 لكنها احتفظت بالنظرة السلبية؛ وأشارت المؤسسة بشكل خاص إلى أنها ترى خطر تدهور أكبر على الموازنات المالية العامة في حالة “تصاعد الصراع”. على النقيض من ذلك، أكدت فيتش أنه من غير المرجح حدوث مزيد من التخفيضات بافتراض أن الصراع سيبقى محدودًا، لكنها مع ذلك غيرت التوقعات إلى سلبية. بشكل عام، خلال هذه الفترة، تميل فيتش وموديز وستاندارد آند بورز جميعها إلى خفض تصنيف إسرائيل مؤخرًا.

من ناحية أخرى، شهدت مؤشرات بورصة تل أبيب، التي تعد أحد أهم أركان الاقتصاد الإسرائيلي، تقلبات خلال فترة الحرب. ظل المستثمرون يشترون بشكل أساسي معتقدين أن الحرب في غزة ستبقى محدودة. ومع ذلك، يبدو أن ثقة المستثمرين الدوليين قد حافظت على استقرارها نسبيًا في بعض الأحيان. على سبيل المثال، عندما بدأت الإبادة الجماعية في غزة، شهدت بورصة تل أبيب انخفاضًا حادًا، حيث خسر مؤشر TA35 أكثر من 6% من قيمته في يوم التداول الأول فقط. لكن بعد أن هدأت موجة الذعر الأولية، تعافت السوق. في بداية عام 2024، ارتفعت مؤشرات TA35 وTA90 بنسبة 36% بالتزامن مع ارتفاع الأسواق العالمية، بينما صعد الشيكل الإسرائيلي، الذي أضعف أمام الدولار، إلى أعلى مستوى في تسعة أشهر في مارس 2024. في الواقع، بحلول منتصف عام 2025، ارتفع المؤشر الواسع TA125 بنحو 21% هذا العام إلى مستويات قياسية. يمكن تفسير هذا الوضع بتوقعات متفائلة بأن التهديد الإيراني سيكون محدودًا نسبيًا. على الرغم من هذه الصورة المتفائلة، يمكن القول إن الثقة في البورصة والاقتصاد الإسرائيلي يمكن أن تتدهور بسرعة. في الواقع، بعد أن انتهكت إسرائيل وقف إطلاق النار في 19 يناير، تصاعدت الاشتباكات في مارس 2025، مما أدى إلى انخفاض المؤشرات. خسرت العديد من المؤشرات في البورصة الإسرائيلية قيمة كبيرة في غضون أسبوع. كما أضعف الشيكل الإسرائيلي مرة أخرى. تشير هذه التقلبات إلى قلق السوق بشأن احتمال استمرار الحرب. يؤكد الخبراء أن ارتفاع البورصة الإسرائيلية يعتمد على توقعات بأن الحرب ستكون محدودة نسبيًا، وأن رد الفعل قد ينعكس في حالة تصاعد جديد محتمل. باختصار، تؤدي قرارات خفض التصنيف الائتماني والنظرة السلبية وتقلب حساسية المستثمرين إلى بقاء علاوة المخاطر الدولية مرتفعة.

تكاليف إعادة الإعمار بعد الحرب وعجز الموازنة

تؤدي العمليات العسكرية طويلة الأمد والهجمات إلى زيادة سريعة في الإنفاق الدفاعي وتكاليف إعادة الإعمار. وفقًا لبيانات البنك المركزي، تبلغ تكلفة الصراعات في الفترة 20232025 حوالي 55.6 مليار دولار أمريكي. أما بالنسبة لحرب غزة، فقد تجاوز الإنفاق بحلول نهاية عام 2024 حوالي 67.5 مليار دولار وفقًا لتقديرات صحيفة كالكاليست. يتم إنفاق هذه المبالغ مباشرة على المواد الدفاعية والإمدادات ورواتب الاحتياط. من ناحية أخرى، على الرغم من ندرتها في إسرائيل، فإن الأضرار التي تلحق بـ”البنية التحتية المدنية” تثقل كاهل الميزانية العامة: على سبيل المثال، تم دفع تعويضات بقيمة 649 مليون دولار للممتلكات المدنية المتضررة بين يناير ومايو 2025. على الرغم من عدم إدراج هذه المدفوعات في العجز الجاري، إلا أنها تساهم في زيادة الدين العام.

تكشف بيانات الموازنة عن العبء الذي يفرضه الصراع على المالية العامة. في عام 2024، سجلت الموازنة الإسرائيلية عجزًا بلغ حوالي 6.9% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي؛ وزادت النفقات التي يجب تخصيصها للاستثمارات والتعويضات والنفقات الإضافية غير المتوقعة من هذا العجز. وفقًا لحسابات فيتش، قد يرتفع عجز الموازنة في عام 2024 إلى حوالي 7.8%. مقارنة بنسبة 4.1% في عام 2022، يظهر هذا الرقم أن الاقتصاد الإسرائيلي تعرض لضرر كبير بسبب الإبادة الجماعية في غزة. بينما تهدف الحكومة الإسرائيلية إلى أن يصل العجز في موازنة 2025 إلى 4.4%، تتوقع السوق أنه قد يقترب من 5%. يتم تمويل هذه العجوزات الكبيرة من خلال الاقتراض؛ نتيجة لذلك، ارتفع الدين العام الإجمالي من 60% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 إلى 69% اعتبارًا من عام 2024. ووفقًا لفيتش، من المتوقع أن تتجاوز هذه الأرقام 70% على المدى المتوسط.

تظهر آثار تآكل المالية العامة في سياسات الضرائب والإنفاق. فحزمة الإصلاحات الضريبية التي دخلت حيز التنفيذ مطلع 2025، والتي شملت رفع ضريبة القيمة المضافة من 17% إلى 18% وزيادة أسعار الوقود والكهرباء، برزت كأدوات لسد هذه الفجوات. من جهة أخرى، أكد البنك المركزي والخبراء على ضرورة خفض الإنفاق لتمويل النفقات الدفاعية. حيث اقترح محافظ البنك “أمير يارون” اتخاذ إجراءات تدعم النمو بدلاً من تحميل القطاع الخاص أعباء إضافية، مع تقليص النفقات الحكومية غير الضرورية. كما يُنظر إلى عملية اعتماد موازنة إسرائيل لعام 2025 على أنها محورية لاستعادة الثقة في المالية العامة؛ فكلما تأخرت الإصلاحات المخطط لها، زادت مخاطر اهتزاز ثقة الأسواق.

الخلاصة؛ أدت السياسات التوسعية الأخيرة لإسرائيل في غزة ولبنان وسوريا وإيران إلى تذبذبات كبيرة في الاقتصاد الإسرائيلي. حيث تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي، وتعرض الاستهلاك الخاص والاستثمارات لضغوط شديدة. كما تأثرت التصنيفات الائتمانية الدولية وثقة المستثمرين سلباً، بينما شهدت بورصة تل أبيب تقلبات حادة. وقد أدى ارتفاع الإنفاق الحكومي وتكاليف الحرب إلى تفاقم عجز الموازنة والاقتراض، مما فرض ضرورة تشديد الانضباط المالي. وبالتالي، رغم أن إسرائيل قد تبدو وكأنها لا تخسر عسكرياً، إلا أن المؤشرات الاقتصادية تثبت أنها تدفع ثمناً باهظاً على الصعيد المالي بعد “عملية طوفان الأقصى”.

شاركها.