د. سمير صالحة تلفزيون سوريا
يبالغ بعضهم حين يتحدثون عن صعوبة تحقيق أي سلام بين دمشق وتل أبيب دون المرور بأنقرة. بيروت هي الأقرب وصاحبة الأولوية في لعب هذا الدور، ضمن المثلث الجغرافي السورياللبنانيالإسرائيلي، ووسط عمليات الكرّ والفرّ الإقليمي منذ السبعينيات وحتى اليوم.
تركيا، التي تراقب عن كثب التطورات الميدانية والسياسية على أكثر من جبهة محلية وإقليمية، قد لا ترغب بأن تكون وسط معادلة من هذا النوع، لكنها لن تعرقلها. لماذا تعرقلها أصلًا، وهي التي كانت تحذر إيران من تمسكها بتحريك أوراق لبنان وسوريا والعراق واليمن ، في مواجهة الغرب ودول المنطقة؟
بدت تركيا، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، كوسيط قادر على التقريب بين دمشق وتل أبيب، مستفيدةً من فرصها الاستراتيجية الكثيرة. فكيف تنظر اليوم إلى أي مسار تفاوضي محتمل بين إسرائيل وسوريا؟ وهل أصبح موقفها أكثر التباسًا بعد تداخل الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية في المنطقة؟ وما العوامل التي قد تدفعها لتكون جزءًا من هذه الوساطات؟ أم أنها ترى فيها تهديدًا لمصالحها الإقليمية؟
يبدو أن الحديث عن تفاهم سوريإسرائيلي برعاية أو بقبول ضمني من قبل الفاعلين الإقليميين في ظل التحولات المتسارعة، أكثر واقعية وعملية بالنسبة لتركيا. لكن هواجسها، خصوصا تجاه مواقف إسرائيل وممارساتها، ما زالت قائمة. فهي متمسكة ببعض الأولويات التي تمسّ أمنها القومي ومصالحها الإقليمية وحدودها الواسعة مع سوريا:
إنهاء مشروع “قسد” السياسي والأمني في شرق الفرات، وسحب ورقة ” حزب العمال الكردستاني ” و”داعش” من يد هذه المجموعات.
الحفاظ على وحدة الأراضي السورية بعيدًا عن مخططات التفتيت والتقسيم.
ضمانات سورية لإسرائيل في المناطق الحدودية، لا بد أن تسبقها ضمانات أميركية لتركيا ودول المنطقة، حول أن إسرائيل ستوقف ممارساتها العدوانية، ولن تخرق الاتفاقيات كما فعلت منذ التسعينيات وحتى اليوم.
في مشهد الشرق الأوسط المتقلب، تتسارع الأحداث وتتعاقب التغيرات بوتيرة غير مسبوقة. كثيرًا ما نجد أنفسنا أمام “فورات” تشتعل بسرعة ثم تخبو، أو “مفاجآت” تحمل في طياتها تحولات استراتيجية عميقة تتجاوز الضجيج الظاهر. وفي هذا الإطار، ترصد أنقرة المفاوضات السوريةالإسرائيلية، استعدادًا لأي مفاجأة قد تنجم عن الواقع السوري الإقليمي الجديد.
يدور الحديث عن حوار دبلوماسي غير مباشر، تدعمه واشنطن، بين سوريا وإسرائيل، خصوصًا بعد إعلان رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، عن إشرافه الشخصي على حوار سياسي وأمني مباشر مع الحكومة السورية. وهناك أكثر من سيناريو مطروح حاليًا:
محادثات تُجرى على مستويات استخباراتية ودبلوماسية، واختبار خطة تدريجية لتثبيت الهدنة من دون تطبيع كامل للعلاقات.
إعادة صياغة اتفاق فك الاشتباك لعام 1974، ضمن اتفاق جديد لا يرقى إلى مستوى معاهدة سلام شاملة.
توقيع اتفاق سلام قبل نهاية عام 2025، يتضمن انسحابًا تدريجيًا من الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد التوغل في المنطقة العازلة في 8 كانون الأول 2024، بما في ذلك قمة جبل الشيخ.
حتى ولو تركنا جانبًا : مسألة الرد الميداني أو المعاملة بالمثل على “الجولة التفقدية” التي قام بها رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير في الداخل السوري قبل أيام، ومحاولته تبرير احتلال الجولان منذ عام 1967، واستغلاله للوضع الجديد في البلاد بعد إسقاط نظام الأسد، للتوغل في المنطقة العازلة، وإعلانه انهيار اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974؛ وحديث وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، عن أن لدى تل أبيب مصلحة في ضم سوريا ولبنان إلى “السلام والتطبيع” — فإن ممارسات إسرائيل في المنطقة تُظهر لنا بوضوح نوع “السلام” الذي تطمح إليه مع دمشق وبيروت.
تسعى تل أبيب لتعزيز أوراقها التفاوضية مع دمشق، من خلال تجيير مسألة رفع العقوبات الأميركية عن سوريا لصالحها، وتقديم الأمر على أنه “هدية إسرائيلية” للسوريين. لكن ما تقوله وتفعله يسير في اتجاه مختلف تمامًا: “نحن نتمسك بنقاط مفصلية”، و”سنواصل العمل ما وراء الحدود للدفاع عن أنفسنا بأفضل شكل “.
لا تقتصر استراتيجية إسرائيل على احتلال أراضٍ سورية أو تقويض منظومتها الأمنية فحسب، بل تتعدّاها إلى محاولات الاقتراب من الحدود التركية عبر أدوات إقليمية مثل “قسد”، في محاولة لفرض أمر واقع استراتيجي جديد. تسعى تل أبيب لتقديم رفع العقوبات عن دمشق كـ”مقابل تفاوضي”، لكن ممارساتها الميدانية تكشف تناقضًا صارخًا مع خطاب السلام، خاصة مع استمرارها في تجاوز اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974 وتوغّلها داخل المنطقة العازلة. كل ذلك يُنظر إليه في تركيا على أنه تهديد مباشر لأمنها القومي ولسيادة سوريا، كما يقوّض أي فرصة جدية لإعادة دمج دمشق في الترتيبات الإقليمية الجديدة .
قد تدعم تركيا خطة ترمب الإقليمية الجديدة، إذا تأكّدت من أن تل أبيب راغبة فعلًا في سلام حقيقي، يختلف عن أساليب وألاعيب القيادات الإسرائيلية منذ السبعينيات وحتى اليوم.
دمج سوريا في دائرة الاقتصاد والتجارة الإقليمية التي تُعدّ لها وتريدها واشنطن، ينبغي أن يتجاوز العقبة الإسرائيلية قبل كل شيء.
قد تتيح الأجواء الإقليمية الجديدة فرصة استراتيجية لصناعة سلام إقليمي، خصوصًا مع انحسار النفوذ الإيراني، لكن لا بد أن يسبق ذلك تهدئة تركيةإسرائيلية وتفاهمات ثنائية وإقليمية حول الملفات الخلافية، بدعم وتشجيع أميركي — وهو ما لا يتوفر حتى الآن.
تركيا، رغم تمسّكها بموقفها الحذر، تدرك أن أي تفاهمات سورية إسرائيلية لا بد أن تمر عبر موازنة دقيقة بين المصالح الأمنية والسياسية. وهي ترى في استقرار سوريا أولوية لا تنفصل عن أمنها ، لكنها في الوقت نفسه تتحفّظ على أي مسار تفاوضي يتجاهل انتهاكات إسرائيل المتكررة أو يُفضي إلى واقع جديد على حدودها الجنوبية. لذلك، فإن أنقرة مستعدة للتفاعل مع أي مبادرة سلام إقليمية، شرط أن تكون عادلة، شاملة، وتحترم قواعد الاشتباك المتفق عليها سابقًا. فالإدراك التركي في زمن التغيير ليس محايدًا، بل مشروط بحماية التوازنات التي تضمن مصالح أنقرة الاستراتيجية.
بقدر ما ترى تل أبيب أن توقيع اتفاقية سلام مع سوريا في الوقت الراهن يُعدّ سابقًا لأوانه، ترى دمشق أن الحديث عن أي اتفاق جديد لا يمكن أن يبدأ قبل التزام إسرائيل الكامل باتفاقية فك الاشتباك وانسحابها من المناطق السورية التي توغّلت فيها. يبدو أن التوصل إلى تفاهمات أمنية على مراحل مع إسرائيل سيكون أكثر واقعية من الحديث عن سلام شامل لا تريده تل أبيب إلا وفقًا لحساباتها وحدها.