اخبار تركيا

تناول تقرير للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، دلالات عملية “طوفان الأقصى” وما كشفته من انهيار صورة إسرائيل كقوة لا تُقهر، مقابل بطولة المقاومة الغزية التي جسّدت نموذجًا إنسانيًا فريدًا يعيد إلى الأذهان قصة داوود وجالوت.

ويربط التحليل بين الإبادة الجماعية في غزة ومفهوم “الحياة المجردة” عند باومان وأغامبن، موضحًا كيف أنّ العالم الخاضع للهيمنة الصهيونية والإمبريالية استسلم لنظام يسلب الإنسان كرامته، بينما اختار الغزيون أن يكونوا الاستثناء الوحيد الرافض للاستسلام.

ويخلص أقطاي إلى أن غزة اليوم لا تمثل مجرد معركة محلية، بل لحظة كونية تُعيد تعريف معنى الحرية والمقاومة في مواجهة نظام عالمي قائم على التجريد والإخضاع. وفيما يلي نص التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق:

بعد انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، أظهرت إسرائيل حالة من العدوانية الوحشية والإبادة الجماعية كشفت عن مواجهة بالغة الدلالة. فقد تمكنت غزة، بأيتامها المحاصرين منذ عقود، من كسر شوكة إسرائيل التي بدت طوال خمسة وسبعين عامًا، بفضل إرهابها الاحتلالي، وامتيازاتها الخارجة عن كل القوانين، والدعم غير المحدود الذي تلقته من الدول الإمبريالية، عصيّة على الانكسار أو الانحناء.

إنها مواجهة غير متكافئة بكل المقاييس؛ غير أنّ الرد الإلهي على طغيان القوة المتألهة المتغطرسة جاءت هذه المرة عبر ألوية القسّام، لتصيب خصمها في الصميم. وفي هذه المواجهة، قدّمت حماس، برغم كل المستحيلات، أداءً أسطوريًا جدّد حضور قصة داوود أمام جالوت؛ ليبرهن للعالم أن تلك الحكاية ليست مجرد أسطورة تاريخية، بل حقيقة متجددة قابلة للتكرار في كل عصر. بل إن هذه اللحظة حرّكت الوعي الإنساني ليعيد النظر في كل الحكايات التي صُنِّفت على أنها أساطير أو أوهام، لدرجة أننا، بالنظر إلى أصالة نضالهم من أجل الحرية الذي كرّسوا حياتهم له، نستطيع أن نقول: “العالم كله أسير، وغزة وحدها حرة”.

نعم، غزة حرة لأنها ترفض الاستسلام. غزة حرة لأنها اختارت أن تقاتل بإرادتها الحرة، وأن تموت بشرف إذا لزم الأمر. إنه الشعب الوحيد في العالم الذي يتحرر من نظام استعبد العالم بأسره، سواء عبر الإعلام، أو الأيديولوجيات الجماهيرية، أو الفن الذي يخدع الأبصار، أو التهديد بأسلحة الدمار الشامل، أو الدعم اللامحدود من الولايات المتحدة وأوروبا، أو حتى عبر الابتزاز الذي يستعبد العديد من قادة الدول اليوم، بمن فيهم ترامب. هذا الشعب شجاع وحر لدرجة أنه يخوض حربًا بأسلحة بسيطة جدًا، من صنع أيديهم، وهي حرب لم تجرؤ على خوضها الجيوش العربية التي بنت لنفسها قوات مسلحة ضخمة بأسلحة أمريكية. وهذا يثبت يقينا أن الشجاعة لا تأتي من السلاح أو من معادلات القوة، بل من الإيمان الراسخ في القلب.

وفي ظل النظام السائد، يُختزل الإنسان المعاصر إلى ما يُعرف بـ”الحياة المجردة”، وقد اتحد هذا النظام اليوم مع الصهيونية لسحق أي احتمال للمقاومة بطرق مختلفة. إن الإبادة الجماعية والتجويع حتى في غزة يمنحان البشرية فرصة لرؤية الحدود القصوى التي يمكن أن يصل إليها هذا النظام في وحشيته. في الواقع، تشير انتقادات الحداثة بشكل عام إلى قدرة هذا النظام على تجريد كل حياة من إنسانيتها من خلال هذه الوسائل وتحويلها إلى مجرد كيان بيولوجي. إن النظام المهيمن يشبه النمرود، فهو يريد أن يقتل من يشاء ويحيي من يشاء، ويُشعر الجميع بأنه لا يُسأل عما يفعل.

إن التصور الذي استلهم منه جورجيو أغامبن فكرة “الإنسان المستباح” و”الحياة المجردة” يعود إلى تحليل زيجمونت باومان، الذي يصف الأفراد الذين تعرضوا لأسوء درجات المعاملة والإذلال في معسكرات الاعتقال النازية بـ “المسلمين”، وقد خضع حميع من في المعسكرات لهذه المعاملة، لكن بعض السجناء وصفوا الحالات الأشد تطرفًا من هذا الانكسار الإنساني ـ حيث يُجرد المعتقل من آدميته ويُختزل إلى جسد بيولوجي محض ـ بـ “المسلم”. ولم يكن هؤلاء بالضرورة مسلمين، غير أنّ أجسادهم المنهكة المنحنية تحت وطأة الجوع والتعذيب ذكّرت الآخرين بحالة الركوع في صلاة المسلمين، ولهذا أُطلق عليهم ذلك الاسم. ومن اللافت أن هذا الوصف لم يصدر عن النازيين أنفسهم، بل جاء من المعتقلين الآخرين، حتى أنهم إذا رأوا واحدًا من رفاقهم وقد انكسرت إرادته تمامًا وبلغ هذا المستوى من الانهيار، نعَتوه بـ “المسلم”.

والمفارقة المثيرة أنّ هذه “الحياة المجردة” التي غُيبت عنها الإرادة وجُعلت مجرد جسدٍ بلا روح ولا هوية، قد ارتبطت في أذهان المعتقلين في المعسكرات النازية بالمسلمين، وصارت تُطلق على السجين المنهار، المُنهك جوعًا ومرضًا ويأسًا، الذي فقد كامل قوته واستسلم للموت منتظرا نهايته الحتمية.

كان السجناء يستخدمون هذه الكلمة بشكل ساخر ومهين لوصف أكثر الأفراد ضعفًا وعجزًا في المعسكر، أولئك الذين وصلوا إلى حالة “الأموات الأحياء”. إن “المسلم” في معسكر الاعتقال هو “حيّ ميت”، لم يعد إنسانًا كاملاً، ولا ميتًا بالكامل. وقد استلهم باومان من هذا التصنيف، مرورًا بتحليلات ماكس فيبر حول العقلانية، لتفسير العقل الأداتي للبيروقراطية. لكن قراءة وضع “المسلم” على أنه مجرد “نتاج للعقلانية البيروقراطية” لا تكفي. فالمكان هنا بحسبه يكشف حدود القانون والسياسة والإنسانية.

إن شخصية “الإنسان المستباح” في روما القديمة هي الشخص الذي يمكن قتله ولكن لا يمكن تقديمه قربانًا. أي إنسان جُرّد من حماية القانون، ولكنه ما زال يحتفظ بوجوده البيولوجي. لا يمكن التضحية به لأنه لا يتمتع بالقداسة، ولا يملك قيمة يمكن أن تُقدم حتى كهدية للآلهة. وفي العصر الحديث، فإن أصدق تجسيد لهذه الشخصية هو “المسلم”، فهو شخص لا يندرج تحت أي فئة قانونية أو أخلاقية أو إنسانية، فهو “ليس مقتولاً بالكامل ولا حيًا بالكامل”. إن موته لم يعد يُعتبر جريمة حتى، لأنه في منطق المعسكر يُعتبر بالفعل “ميتًا”.

في الواقع، يكشف كل من باومان وأغامبين، من خلال شخصية “المسلم”، عن الخلل الأخلاقي في الحداثة، ويشخّصان الجوهر الحيوي السياسي للسياسة الحديثة، وبهذا لا يبقى “المسلم” مجرد حادثة تاريخية، بل نموذجًا مستمرًا لـ “الحياة المجردة” التي تواجهنا باستمرار في عالمنا المعاصر (اللاجئون، والمخيمات، ومناطق الحرب، والحجر الصحي بالمستشفيات، وغيرها).

إن ربط السجناء في معسكرات الاعتقال، الذين تعرضوا لنفس المعاملة، بين الأضعف منهم وبين المسلمين، يبرهن على أن الأيديولوجيا الاستشراقية الراسخة في ذهن الأوروبي العادي كانت تعمل في كل مكان. إن هذا التصنيف الأيديولوجي الذي تم تناقله عبر القرون من جيل إلى آخر، عمل بنفس القوة حتى في تلك المعسكرات، ولكن اليوم، وبفضل صمود غزة، يمكن القول إن هذه التصنيفات تعرضت لانهيار كبير.

في الوقت الذي استسلم فيه العالم كله للهيمنة الصهيونية وخضعت لها إرادة الجميع، كان المسلم الغزي هو الوحيد الذي اعترض على هذا النظام. لقد أصبحت غزة مصدر أمل للإنسانية بأسرها، لأنها أظهرت أن الإنسان لا يمكن أن يُختزل إلى “حياة مجردة”. ولذلك، يقول ناشط يساري في بريطانيا: “لغة المقاومة في عصرنا تُنطق في فلسطين، والفاعل الحقيقي للثورة هو الغزي”. فالغزي، رغم كل أنواع التعذيب والحصار ومحاولات الإبادة والتجويع، ما زال قادرًا على المقاومة بجسده النحيل، ليكون نموذجًا استثنائيًا للبطولة الإنسانية.

هنا تتجلّى البطولة الاستثنائية والمخلصة التي تظهر باسم الإنسانية ضد “استثنائية” الأنظمة المهيمنة. وقد برز هذا النوع من البطولة اليوم لدى شعوب مسلمة أخرى مثل الأفغان والسوريين، الذين قاوموا ولم يستسلموا رغم أن الجميع استسلم للقوى العظمى ولم يجرؤ أحد على مواجهتها. المسلم اليوم، كما نراه في غزة وسوريا وأفغانستان، هو ذلك الفرد المقاوم، المحارب، الرافض للاستسلام، الذي يجد معنى لوجوده حتى في مواجهة الموت.

ربما لم يتحقق ذلك بنفس المستوى في السياق الأفغاني والسوري، ولكن في مثال غزة، تُلهم هذه الشخصية الإنسانية جميع البشر لانتقاد النظام المهيمن الذي يعيشون فيه، وتمنحهم أملًا حقيقيًا للتحرر من هذا النظام.

شاركها.