اخبار تركيا

البلقان.. تأملات وانطباعات

google_ad_client = “capub7395716914924734”;
google_ad_slot = “5416840538”;
google_ad_width = 300;
google_ad_height = 250;

طه كلينتش يني شفق

في يوم الأربعاء 23 أكتوبر، وبينما كنت أتوضأ لصلاة الظهر في ساحة مسجد سنان باشا في بريزرن (كوسوفو)، فوجئت بوجود الحاج إلياس بجوارى. الحاج إلياس شخصية بارزة في المدينة، فكل زائر للمدينة يلتقيه ويتبادل أطراف الحديث معه، وربما جال في المدينة برفقته، وكان أكثر ما يحبه هو تعريف الضيوف بتاريخ بريزرن. لقد تعرف الحاج إلياس على الأستاذ الراحل نجم الدين أربكان في ألمانيا، وتولى طوال ثلاثين عامًا تمثيل حركة “ميلي غوروش” في البلقان. كان الحاج إلياس صديقًا مقربًا من علي عزت بيغوفيتش، ويصف الرئيس أردوغان قائلاً: “إنه صديقي”. وقد استضاف أردوغان مرتين في بريزرن، كما بادل الحاج إلياس تلك الزيارة بزيارة أردوغان في أنقرة.

خلال زيارتي لبريزرن في يوليو، تجاذبنا حديثًا طويلًا، ولكن في هذه المرة تبادلنا حوارًا قصيرًا لكنه دافئ، حيث قال: “كل ما ترونه الآن كان خرابًا، كانت مساجدنا مدمرة. ولكن تدخل الرئيس أردوغان وأعاد ترميم كل شيء، وأحيا تراثنا. لم يكن هناك من يهتم بهذه المناطق قبله. نحن مدينون له بكل هذا”. كنت معتادًا على تعليقاته، ولكن أصدقائي الذين رافقوني في الرحلة شعروا بشيء من الدهشة أمام صدق كلماته. ثم أضفى الحاج إلياس نبرة من الجدية قائلاً: “لكنكم في الانتخابات الأخيرة لم تعملوا بجد كافٍ. لقد فقدتم البلدية، هذا مؤسف حقاً”

كانت بريزرن المحطة الأخيرة في رحلتنا التي استمرت أسبوعًا وشملت خمس دول في البلقان. انطلقنا من سراييفو متوجهين إلى موستار، مرورًا بزاوية بلاغي وقرية بوتشيتل حيث أقمنا في تريبينيي، ثم زرنا كوتور وبودفا وبار، حتى وصلنا إلى شكودرا. وبعدها، عبرنا تيرانا وألباسان ثم وصلنا إلى أوهريد، ومنها اتجهنا عبر طريق ريسن وبيتولا إلى سكوبيه. وبعد زيارة تيتوفو، دخلنا كوسوفو واسترحنا في بريزرن، وختمنا الرحلة بزيارة ضريح السلطان مراد قبل عودتنا إلى إسطنبول.

في كل مدينة زرناها بالبلقان، وكل مسجد صلينا فيه، وكل قبر دعونا عنده، لمسنا بعمق حقيقة ما يعبر عنه الحاج إلياس حين يقول: “تركيا وقفت بجانبنا”. فلم يكد يخلو معلم تاريخي من لافتة وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، حيث أعادت ترميم المباني التاريخية أو أو دعمها للحفاظ على وجودها. كما قامت مؤسساتنا الرسمية الأخرى بالكثير من الأعمال في هذه المناطق. ولم تتوقف جهود مؤسساتنا الرسمية عند ذلك، فقد أسهمت في بناء جسور راسخة بين قلوب الشعبين التركي والبلقاني، مما عزز روابط التواصل التاريخية، وأكد لهم في هذه المنطقة التي لا تزال تحمل الروح العثمانية الحية، أنهم ليسوا بمفردهم.

وبينما كنت أزور جامع “نمازجاه”، الذي افتتحه الرئيس أردوغان مؤخرًا في تيرانا عاصمة ألبانيا، كنت أستمع إلى حديث الألباني جمالي سيديو، الذي يشرف على حراسة وزيارة الزاوية التاريخية حَرَابَاتِي في تيتوفو، حيث قال: “كانت هذه الزاوية العثمانية التاريخية تحت احتلال المسيحيين. وقد قاتلنا أنا وأصدقائي في الجبهة ونجحنا في استعادتها. وعندما حدثت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو، لم أستطع التحمل، فتوجهت مباشرة إلى تركيا. انتظرنا هناك أيامًا عند قوات مكافحة الشغب في بيرم باشا.”وبينما كنت أصغي لكلمات العمة بوشناق سانيه، التي كانت تحرس الضريح الذي شُيد في المكان الذي استشهد فيه السلطان مراد الأول، وتثني على العثمانيين، كانت مشاعرنا واحدة: الأعين والآذان كانت تتجه نحو تركيا. وكان الجميع يدعو لسلامة تركيا وأمنها واستقرارها وقوتها وازدهارها.

لقد علمتُ بأمر هجوم توساش أثناء توجهنا إلى بريشتينا لركوب الطائرة المتجهة إلى إسطنبول. وكانت التناقضات كبيرة بين الآمال التي شهدناها خطوة بخطوة في البلقان ومستنقع الفوضى والإرهاب الذي تسعى بعض الأطراف إلى جذب تركيا إليه، فكيف يمكن مقارنة هذا الهجوم بكل ما شاهدناه من أمل في البلقان؟ وبينما كنت أحاول معرفة تفاصيل الهجوم، تداخلت أفكاري ولم أستطع مقاومة الغوص في التفكير حول المستقبل.

فهل يتم تأهيل كوادر سياسية قادرة على تلبية الآمال المعقودة على تركيا في البلقان (وفي بقية العالم الإسلامي)؟ هل سيكون القادة الذين سيتولون زمام الأمور في تركيا مستقبلاً قادرين على الحفاظ على الاهتمام الصادق والحار بالتراث العثماني الذي نشهده في السنوات الأخيرة؟ هل هناك منصة تتيح لتلك الأطراف التي تعمل على إضعاف تركيا من كل الجهات لأسباب مختلفة، أن تلتقي بشخصيات مثل الحاج إلياس، وجوماالي، والعمة سانيه”؟ هل لديهم القدرة على فهم تلك الروح؟ والأهم من ذلك هل لديهم التزام عميق بمثل هذه القضايا؟

أعلم أن إجابات بعض هذه الأسئلة قد تكون مقلقة ومحبطة. ولكن الأحداث الأخيرة التي نعيشها تظهر لنا بوضوح أننا بحاجة إلى مضاعفة جهودنا والعمل بجدية أكثر للحفاظ على الثقة التي وضعت فينا، وعدم خذلان الآمال التي علقت علينا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *