التغيير في سوريا ومستقبل الحركات الإسلامية
![](https://sharqakhbar.com/wp-content/uploads/2025/02/2025-02-04-suriye-13-773x470.jpg)
عامر عبد المنعم الجزيرة مباشر
منذ سقوط بشار الأسد ودخول قوات الفصائل الثورية دمشق وتسلم السلطة، لا تتوقف الوفود الأوروبية والأمريكية عن زيارة سوريا والالتقاء بأحمد الشرع، ورغم أن تركيا وقطر كانتا في مقدمة الدول التي أعلنت دعمهما للحكم الجديد، فإن معظم الدول العربية ترددت في البداية، لكنها حسمت أمرها سريعا وقررت التواصل، وتم تتويج التقارب بدعوة الرئيس السوري لزيارة الرياض، حيث قوبل بحفاوة وترحيب، وقدم رؤساء دول منها مصر التهنئة، وإظهار الرغبة في التقارب مع قادة الإسلاميين السوريين.
الأهمية الجيوسياسية لسوريا ودورها التاريخي كان من أهم الدوافع التي تجعل دول العالم تنظر باهتمام لما يجري في الشام، وتسعى كل دولة ليكون لها دور في مستقبل سوريا، سواء كان إيجابيا بالدعم وإقامة علاقة قائمة على الاحترام المتبادل، أو سلبيا بالتدخل والمشاركة في العملية الانتقالية، أو بالتخريب عن طريق التلاعب بالعملاء من قادة الأقليات لفرض التقسيم، أو بالاحتلال كما يفعل الإسرائيليون، مستغلين حالة الضعف قبل استقرار الحكم.
الذي زاد من الاهتمام بحكام سوريا الجدد خلفيتهم السياسية وهويتهم الإسلامية الواضحة، فأحمد الشرع وتحالف الفصائل العسكرية معه لا ينكرون توجهاتهم الجهادية، ولكنهم تعاملوا بذكاء وحكمة عندما وصلوا إلى السلطة، فالشدة والقوة كانت في الحرب فقط ضد نظام بشار والميليشيات الإيرانية والقوات الروسية، الذين دمروا المدن وقتلوا مليون سوري وهجروا نصف السكان، ولكن الجهاديين السابقين تعاملوا بالرحمة والتسامح مع الشعب بكل طوائفه بعد زوال الخطر.
الحنكة السياسية التي يظهرها القادة السوريون الجدد أثارت الإعجاب في الكثير من الدوائر القريبة والبعيدة، وأزالت القلق لدى الكثير من الدوائر في الدول العربية التي تعيش صراعات ومعارك مع تيارات وأحزاب إسلامية، فمنذ اليوم الأول كانت رسالة الشرع واضحة وهي أنه يريد التعاون مع الجميع، وأن تجربتهم محلية غير قابلة للتصدير، وأن المرحلة السابقة انتهت بسقوط النظام، فلا فصائل وإنما جيش واحد وحكومة واحدة بلا محاصصة.
ومع تمسك الشرع ومعاونيه بالسمت الإسلامي فإنهم أعلنوا عدم فرض نموذج معين من المظاهر الة بالهوية على الشعب السوري، وترك كل شيء ليقرره السوريون فيما بعد، مما أشاع الاطمئنان لدى قطاعات قلقة من محاولة فرض نموذج من الالتزام بالقوة، وكان الانفتاح على السوريينكلهمواحترام كل الذين شاركوا في الثورة، واستقبال الشرفاء من كل الطوائف دليلا على عدم وجود نزعة للانفراد والاستبداد.
حتى الأكراد الذين يحاول الأمريكيون والإسرائيليون التلاعب بهم واستخدامهم، تحاول القيادة السورية احتواء الميليشيات الكردية المأجورة وإنهاء سيطرتها على شرق سوريا بالتفاوض، وأعطتهم المهلة تلو الأخرى لتجنب الحل العسكري الذي تجعله آخر الحلول، وبنفس الصبر والنفس الطويل يتعامل أحمد الشرع مع التمرد الدرزي، ورفض مشيخة الطائفة في السويداء تسليم السلاح، وعدم القبول بالانضمام للحكم الجديد.
التحدي الأكبر الذي تواجهه سوريا بعد شرق الفرات هو التوسع الإسرائيلي في الجنوب حيث ترفض ميليشيات قبلية في درعا لها علاقات سابقة بالنظام والروس الانضمام لقيادة دمشق، وبجوارها تمرد السويداء، ثم القوات التي أسسها الأمريكيون في قاعدة التنف على الحدود الأردنية، ثم الفراغ الصحراوي حتى الحدود مع العراق، ويتعاون الشرع مع الأتراك بثقلهم السياسي، لوقف هذا الخطر بالمفاوضات مع الأمريكيين والضغط السياسي، وبترتيبات أخرى صدرت عنها إشارات، لكن لم يعلن عن تفاصيلها.
هذا الأداء المتميز الذي يتسم بالذكاء والواقعية هو الذي غيّر الصورة السلبية التي حاول الإعلام المتطرف في العالم العربي تصديرها للرأي العام، فلم يعد مجديا الحديث عن جبهة النصرة وأحرار الشام وتاريخ الجولاني لتشويه الحكم السوري، ولم يعد أحد مستعدا لسماع صراخ بعض الإعلاميين الموتورين، الذين شعروا بالصدمة من وصول فصائل إسلامية للحكم في دولة مهمة مثل سوريا، وقد ثبت أن هذا الهوس يكشف عن “هستيريا” مرضية ومخاوف مفتعلة ليست حقيقية.
من يتابع المشهد السوري منذ سقوط حلب وحتى الدخول المظفر للعاصمة يلاحظ غياب الشعارات التي تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، رغم تعدد الفصائل وكثرة راياتها الإسلامية، وما يقوله الشرع لا يختلف عليه أحد من باقي الفصائل التي قبلت أن تحل نفسها وتندمج في الجيش السوري الموحد، وأصبح هدفهم الرئيس بعد الخلاص من الحكم المستبد هو طرد الاحتلال الأجنبي الأمريكي والروسي بعد الإيراني والميليشيات التابعة، وكسر شوكة الطائفيين العملاء للقوى الخارجية، وإعادة توحيد سوريا.
التجربة السورية تقدم للحركات الإسلامية طرحا جديدا، وهو أن الأولوية للتخلص من التبعية والتحرر من الاحتلال والهيمنة الخارجية قبل أي حديث عن تطبيق الشريعة، وهذا هو الدرس المستفاد من تجارب التغيير المعاصرة، فالحركات الإسلامية منذ نصف قرن تطالب الحكومات العلمانية والتابعة لقوى الهيمنة بتطبيق الشريعة، والتجاربكلهافشلت، وانتهت بالصدام والعصف بمن يطالبون بالشريعة، بل وتحويل المطالبين إلى مشتبه بهم، مصيرهم المشانق والسجون.
بل استغل بعض الحكام الانتهازيين حب الناس للإسلام في تعديل الدساتير، للتمديد لهم في السلطة مددا أطول، ووعدوا بتطبيق الشريعة ثم نكصوا على أعقابهم، وقد ثبت فشل محاولات تطبيق الشريعة من حكام لا يعظمون شعائر الإسلام، كما فشلت محاولات تطبيق الشريعة بالقوة والإكراه (تجارب تنظيم الدولة)، بل إن مفهوم الشريعة الذي يعني إقامة الدين، تم تشويهه واختزاله في إقامة الحدود، وتعديل قوانين العقوبات لردع القلة القليلة التي لم تلتزم بالإسلام، ولم ينفع معها الدين والوعظ والإرشاد.
لا شك أن نجاح حكام سوريا في تقديم تجربة عاقلة في إدارة الدولة يفتح صفحة جديدة في التعامل مع الإسلاميين بالمنطقة، ويوجه ضربة قاصمة للمشروع الإسرائيلي القائم على شيطنة كل من يعتز بدينه، وتحريض الحكام عليهم وشيطنتهم، والدخول معهم في حروب صفرية لا نهائية، والتعامل معهم وكأنهم هم الخطر الاستراتيجي والعدو الأول وليس الكيان الصهيوني، لاستنزاف الأوطان وتخريبها.
أمام قادة سوريا الكثير من التحديات، والعيون تترقب وترصد ماذا سيفعل الشرع ومن معه؟ وهناك من يتمنى لهم الفشل، لكن الشعب السوري الذي صهرته المحنة يقف بكل قوة خلف قيادته، ولا يقبل العودة إلى الوراء، ومن يتوهم من قادة الطوائف المتعاونين مع إسرائيل والغربيين أنه يستطيع التشويش ومنع الاستقرار مصيره الخسران، فالأغلبية استردت الحكم ولن تسمح بعودة أي حكم طائفي مرة أخرى.