اخبار تركيا

تناول مقال للكاتب والخبير التركي سليمان سيفي أوغون، التحولات العميقة التي طرأت على النظام الرأسمالي العالمي، منتقلاً من الرأسمالية الصناعية الكلاسيكية إلى شكل جديد قائم على العولمة، والتقنيات الرقمية، والسيطرة المالية اللامركزية.

يشرح الكاتب كيف استُبدلت الدولة القومية الاجتماعية بمنظومة رأسمالية أكثر تحررًا من القيود البيروقراطية، لكنها أكثر فوضوية وقسوة، حيث أُعيد تشكيل العالم عبر استغلال الانقسامات العرقية والدينية لفرض الهيمنة.

كما يناقش المقال الذي نرته صحيفة يني شفق موقع دول مثل تركيا والصين في هذا النظام المتغير، موضحًا أن ما يبدو تحررًا هو في الحقيقة تفكيك لمنظومات الحماية الجماعية، وتوسيع لهيمنة رأس المال المعولم. وفيما يلي النص الكامل:

يعتمد الرأسمال الصناعي ذهنيًا على تقسيمات مفاهيمية صارمة وحاسمة. العالم بالنسبة له أبيض وأسود، لا مكان للوسط. لكن تجارب الحياة تثبت عكس ذلك تمامًا. الجانب الثقافي للمجتمع الصناعي مكرس لرفض أو حتى قمع هذه الحالات الوسطية، وتشكيل أذهان الناس من خلال التعليم على هذا الأساس.

تشير عمليات “العولمة” إلى انهيار البنى الكاملة للرأسمال الصناعي. هذا ليس نهاية الرأسمالية كما يظن البعض، بل تحول على المستويات المالية والتقنية. الأزمات هي تعبير جدلي عن أعمق أوجه هذا النظام. وفي هذا، يبدو ماركس محقًا جزئيًا، إذ أن التغير في أدوات الإنتاج يحوّل كل شيء، لكن خطأه كان في توقع أن يؤدي هذا إلى نهاية الرأسمالية. في الواقع، هذه التغيرات هي التي تشكل الرأسمالية نفسها المتحولة.

الرأسمالية الصناعية التي ميزت القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي كانت مبنية على توازنات اقتصادية كلية وبنى بيروقراطية تضمن التنبؤ بالعمليات، تطورت إلى رأسمالية استهلاكية تعتمد على تضخم مالي فوضوي ومليء بعدم اليقين، وكان النيوليبرالية حاميتها.

تغيّرت العوالم الثقافية والعقول تبعًا لذلك، وهو ما تشير إليه الحداثة ما بعد الصناعية. هي تذكّرنا بالروابط والقيم التي فقدناها وتحثنا على استعادتها، كفتح صندوق باندورا. كل ما طردته الرأسمالية الصناعية يعود مجددًا. المجتمع المفتوح والديمقراطية الراديكالية وهياكل البيروقراطية المنظمة جميعها أصبحت هدف نقدي، بما في ذلك الدول القومية والبنى القانونية والأنظمة التعليمية التي بُنيت وفقًا لمقتضيات الاقتصاد السياسي.

في البداية، كان لذلك أثر مريح، إذ كنا نتحرر من أعباء وضغوط القرنين التاسع عشر والعشرين. لكن القوى الجديدة التي هدمت تلك الهياكل هي ذاتها الرأسمالية الجديدة.

التحليلات النقدية التي أعدها السوفييت تعود كبوميرانغ، تضرب داخل الغرب ذاته، الذي أعلن نصره وأعلن عن تفكيك ذاته. لكن سرعان ما اتضح أن الاتجاه لم يكن نحو الانهيار، بل إن الرأسمالية أرادت التخلص من التزاماتها الاجتماعية المكلفة داخل الدول القومية التي بنيت عليها. هذا كان كل ما في الأمر.

بالطبع، لهذا كان ثمن، حيث واجه البريطانيون مشاكل في إيرلندا واسكتلندا وويلز؛ وفي بلجيكا صراع الفلاندرز والوالون؛ وفي إيطاليا صراع الشمال والجنوب؛ وفي فرنسا صراعات الباسك وكورسيكا؛ وفي إسبانيا القضايا الكتالونية والباسكية. لكن الرأسمال الصناعي لا يعترف بالوطن ولا الأمة، بل هو الذي يتحكم في هذه الانقسامات ويعمد إلى تعميدها. (كان إرنست جيلنر محقًا حين وصف الأمة بأنها وظيفة التصنيع). القوى الجديدة باتت تلغي كل ذلك.

وعليه، دعوات “التحرر” التي رافقت العولمة كانت في الحقيقة إعلانًا عن رغبة الرأسمال في التخلص من الدولة الاجتماعية وهياكل الدولة القومية البيروقراطية، التي فرضت عليه أعباء مالية كبيرة. لكن نصيب الجماهير من هذه “التحرر” كان الفقر وغياب الضمانات التي تحميهم من وحشية النظام الرأسمالي.

ومن المهم أيضًا التأكيد أن الرأسمالية بهذا الشكل لا تتخلى عن مبدأ السيطرة المركزية، بل تسعى إلى استبدال المركزية القائمة على الدولة القومية بسيطرة تقنية مركزية أكبر وأعمق على المستوى العالمي. ويبدو أنها قطعت شوطًا كبيرًا في ذلك.

الرأسمالية الصناعية لم تكن تشفر فقط مراكز التراكم، بل العالم بأسره، حيث تم ترميز أنصاف المراكز والعوالم الطرفية بنفس الرموز. الفترة ما بعد الاستعمار تبرز كيف تم ترميز هذه الفرقاء الاقتصادية الضعيفة، التي رغم استقلالها السياسي تعاني فقرًا مدقعًا.

وبما أن العولمة تعني بناء عالم جديد، كان لا بد من وجود جهاز لفك الشفرة. كان ذلك سهلًا للغاية، إذ تم استغلال خطوط الصدع العرقية، والدينية، والمذهبية لتدمير هذه العوالم الهشة كما لو كانت قصورًا رملية. وقد قاموا بذلك، والدويلات الساقطة ردّت بعنف، مما زاد الطين بلة. وهذا هو جحيم الشرق الأوسط الذي يتزامن مع “الربيع العربي”، حيث استولى الرأسمال العالمي على هذه العوالم.

الصين التي كانت تعتبر مكب نفايات للصناعات الثقيلة، أحدثت قفزة تكنولوجية لتسيطر على الأسواق العالمية، محققة بذلك قصة فرانكشتاين الحقيقية: وحش عملاق خرج من مكب النفايات.

الصين تهدد الهيمنة النفطية للرأسمالية الغربية العالمية. واليوم، رغبة ترامب، ذو الفكر النازي تقريبًا، في أن يكون مبشر السلام لأمريكا في مناطق الفوضى، هي محاولة لوقف تأثير الصين المتزايد في قنوات التجارة العالمية، واستعادة الهيمنة فيها.

تركيا تواجه نصيبًا ثقيلًا من هذه التحولات، تمثل في القضية الكردية التي أودت بحياة عشرات الآلاف من الناس وأحدثت تحولات ديموغرافية جسيمة. يبدو أن “سلام ترامب” يمنح تركيا فرصة للخلاص من هذه المشكلة.

تتباين الآراء بشكل حاد، فبعضهم يرى أن هذه التحولات ستؤدي إلى تفكك تركيا أكثر في المدى المتوسط، بينما يرى آخرون أن تركيا ستخرج منها أقوى وأكثر تأثيرًا، ليس فقط في الشرق الأوسط بل في بحر قزوين.

الخلاصة

من المؤكد أن تركيا تمر اليوم بأحد أعقد مفترقاتها التاريخية. لكن مخاطر العمل بطريقة متهورة أو بالاستعجال اليومي أو الحسابات الرخيصة عالية جدًا. هذا المسار يحتاج إلى إدارة دقيقة ومدروسة. كتبت هذا المقال لتقديم إطار تاريخي لفهم القضية، وأتمنى أن تتحقق توقعات المتفائلين وتُدار الأمور بحكمة، وأن لا نخسر ما نملكه كما يحذر المتشائمون.

ما زلنا في بداية الطريق، وسنواصل المتابعة.

شاركها.