اخبار تركيا

الفن بين المحلية والعالمية.. هل فقد فنّانو العالم الإسلامي هويتهم؟

اخبار تركيا

تناول مقال للإعلامي والكاتب التركي المعروف توران قشلاقجي، الضوء على قضية فقدان الفنانين في العالم الإسلامي اتصالهم بجذورهم الثقافية وهويتهم الفنية، مما يعوق وصولهم إلى العالمية.

المقال الذي نشرته صحيفة القدس العربي، سلط الضوء على أهمية التراث الفني والأدبي في بناء إبداع حقيقي، مشيرًا إلى أن الفنان الذي يجهل تقاليده يفقد العمق ويظل سطحيًا.

كما استعرض الكاتب آراء مفكرين عالميين مثل تولستوي وبيكاسو ونيرودا، الذين أدركوا قيمة الفنون الشرقية، مقارنة بجهل العديد من فناني الشرق بتراثهم.

وناقش المقال أيضًا تأثير الفكر الغربي في تشكيل رؤية الفن، مشيرًا إلى ضرورة استعادة الوعي بتاريخ الفنون الشرقية لتجاوز التبعية والسطحية الفنية.

وفيما يلي نص المقال:

يطلق علماء الاجتماع على القرن الحالي اسم «عصر الثقافة والفن». لأن الفن يمثل وسيلة التعبير عن الذات منذ وجود الإنسان؛ فهو صدى الروح، وشاهد الزمن، واللغة المشتركة للبشرية. ولكن الفنان في عالمنا يعيش في عزلة منفصلاً عن جذوره، ينظر إلى العالم من نافذة واحدة، ويغلق أذنيه عن المعرفة والحكمة. فهل يمكن لفنان أعرض عن تراثه الثقافي، وجاهل بتقاليده الفنية، أن يصل إلى لغة عالمية؟

الكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي يبحث عن أثر الفن في أغاني الفتيات اللواتي يذهبن لجلب الماء، وفي الحكايات التي ترويها الجدات في ليالي الشتاء. أما فنانونا، فإنهم لا يعرفون لا أدبنا العريق ولا الحديث بشكل كافٍ. إذا أصغوا لعالم، فهم عمي عن الآخر. لذلك، كيف يمكن لفنان لا يستطيع مخاطبة الجميع في بلده، أن يصل بصوته إلى شعوب العالم؟ الفن ليس مجرد جهد فردي، بل هو تراكم ثقافة وحضارة. الفنان الذي ينفصل عن جوهره يفقد العمق، ويبقى عالقا في السطحية، ولا يستطيع أن يتجذر حتى في أرضه، ناهيك عن الوصول إلى العالمية.

يعرف الغرب لكنه يجهل الشرق. يحفظ الأساطير اليونانية، لكنه لا يعرف ملحمة جلجامش. حكاياتنا القديمة، وألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، كلها غريبة عنه. ومع ذلك، فإن مقولة نيتشه تلخص كل شيء: «لو اختفى كل الأدب العالمي ولم يبق لدينا سوى ألف ليلة وليلة، لكان ذلك كافياً للإنسانية». أما فنانونا، فلا يعرفون هذه الحكايات ولا يستطيعون فهمها. الفنان في مجتمعاتنا منفصل عن منطقته. أصبح أسير الفكر الوضعي الغربي وبقي عالقا هناك. أيديولوجيات الماضي قيدت الفن. أما الفنان المتدين فلا يفهم الفن؛ يقرأ حتى تاريخه من خلال السلاطين فقط. لا يعرف كيف نشأ الفن، ولا لماذا سمح النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) للأحباش باللعب في المسجد. يجهل زخارف قصور الأنبياء الملوك سليمان وداود (عليهما السلام). ولا يفهم لماذا يُطلق على الأصوات الجميلة اسم «الداودي». ولا يستوعب لماذا أُعطي داود (عليه السلام) المزمار. لأنه لا يمتلك منهجية تاريخية تشرح هذا.

بابلو بيكاسو، الفنان الإسباني الذي عاش في فرنسا، وهو رسام ونحات ومصمم وكاتب مسرحي وشاعر، يعتبر أحد أعظم رسامي القرن العشرين. عندما زاره الرسامون الأتراك في بدايات الجمهورية التركية في باريس، سألهم: «لماذا تقلدون فن الغرب؟ فن الخط لديكم وصل إلى ما نحاول الوصول إليه في الفن الحديث قبل مئات السنين!». وبالمثل، الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، أحد أهم شعراء القرن العشرين، زار مسجداً في سنغافورة في الثلاثينيات وأعجب بفن الخط. في تلك اللحظة، تذكر قول صديقه بيكاسو: «فن الخط جوهرة». الغرب يدعي أن الفن بدأ مع اليونان وفرض هذا على البشرية لثلاثمئة عام. لكن اليوم، يعترفون بأن حضارات الشرق مثل الهند والصين وبابل وسومر ومصر سبقت اليونان في الفن والفلسفة. حتى الكاتب الفرنسي الشهير فولتير كان من الذين صرخوا في وجه جهلة عصره: «اليونان لم تكن كما يتخيلون». عندما سألته الإمبراطورة كاترين الثانية: «سيدي، وفقاً لألغاروتي، اليونانيون اخترعوا كل شيء. هل هذا صحيح؟» أجابها فولتير: «لا، سيدتي. اليونانيون لم يخترعوا شيئاً. لقد أتقنوا أشياء قليلة، وفعلوا ذلك في وقت متأخر جدا».

أصول الفن ة بالمهارات الإنسانية. كلمة «آرت»(art) في الإنكليزية تأتي من الكلمة اليونانية «تكني»(techne) واللاتينية «آرس» (ars)، وكانت تشمل الفن والحرفة. في الغرب، انفصل الفن عن الحرفة في القرن الثامن عشر، ونحن نسخنا هذا الفصل عنهم. في حين أن الفن والحرفة كانا متلازمين تاريخياً. في الماضي، لم يكن الفنانون ينتجون المؤلفات فحسب، بل كانوا يصنعون آلات الموسيقى والرسم ويعزفون عليها ويستخدمونها. كلمة «صناعات» كانت تعبر عن الأعمال المنجزة بمهارة واحترافية (سواء كانت فنونا أو حرفة)، ونتيجة لتأثير الغرب استبدلنا «آرت» بكلمة «فنون».

واستبدلنا كلمة «كولتور» (kültür) التي دخلت من الألمانية إلى الثقافة العالمية بكلمة «هارس» (Hars) ثم «ثقافة» (Sekafe). الشرق أولى أهمية لقوة الكلمة (logos)، وانتقلت كلمة logos إلى العربية على شكل اللغة. اللغة والشعر والخطابة كانت أقوى مجالات الشرق. ثم برزت قوة الكتابة. مع القلم (اليونانية kalemos) والقرطاسية (اليونانية χártēs)، بدأت الثقافة المكتوبة تتطور. اليوم، نحن نعيش في عصر الصور والمشاهد. مجتمعات الشرق إما أن تعيد قوة الكلمة والكتابة، أو تبني العالم المرئي بخيالها. لذلك، يجب أن نفهم أن صناعة الأفلام مهمة مثل بناء المساجد. السينما، المسرح، الموسيقى، الأوركسترا، الأوبرا، الرسم، النحت.. هذه هي العناصر الأساسية للثقافة والفن والجمال. لذلك، يجب أن نكون قادرين على المنافسة العالمية في هذه المجالات.

في كتابه «ما هو الفن؟»، يشرح تولستوي أن الفن لدى المسلمين يتجلى في صفة الجمال لدى الله سبحانه وتعالى، وأن نظرة الجمال هذه طورت الفهم الجمالي لدى المسلمين بشكل أفضل. لكن المحافظين والمتدينين اليوم ابتعدوا عن هذه الروح. بينما كان ينبغي لأبناء الحضارة الذين نقشوا فنونهم على الورق والماء والعمارة، ألا ينسوا الفن والجمال.. سبب الوضع المزري للمجتمعات المسلمة في مجال الثقافة والفن هو، عدم حل العديد من القضايا حتى على مستوى الفكر، مما يعيق تقدمها وإنتاج أفكار أصيلة فيها. النقاشات المستمرة منذ قرون حول الموسيقى والسينما والنحت هي أمثلة واضحة على هذا الانسداد الفكري.

الدول والأحزاب والمؤسسات ورجال الأعمال في الدول العربية يرون الاستثمار في الثقافة والفن رفاهية غير ضرورية، ويعتبرون دعم هذا المجال في كثير من الأحيان جهداً عبثياً. بل إن البعض يعتبره إثماً. لكن على العكس، يعد دعم الفن والثقافة اليوم باعتقادي ربما من أعظم أعمال الخير من الناحية الروحية. ومع ذلك، بسبب نقص الوعي، لا يتم تخصيص ميزانيات للفن، أو يتم تقليصها إلى حد كبير. في الواقع، ارتقت الحضارات العظيمة في التاريخ من خلال اهتمامها بالفن، وتركت بصمتها على عصورها بفهمها للجمال. فقد ازدهر عصر النهضة برعاية عائلة ميديشي للفن، ونشأ كبار الفنانين بدعمهم. اليوم أيضاً، يجب أن تقود المؤسسات تطور الفن بشكل مشابه.

خلاصة القول؛ من الضروري أن تدعم الدول العربية والإسلامية الثقافة والفن بشكل جدي، وأن تحظى أقسام الفنون الجميلة في الجامعات باهتمام كبير. فدون ذلك، لا يمكننا أن نحدث تميزا في الثقافة والفن، أو أن نصبح صوتاً عالمياً. استمرارية الحضارة لا تتشكل فقط في التكنولوجيا أو السياسة، بل في فنها وثقافتها. المجتمع الذي يعرض عن الفن، يصبح مع الوقت غريباً عن روحه أيضا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *