القضية الفلسطينية.. بند لا يقبل التعديل في إندونيسيا
ياسين أقطاي يني شفق
نحن في جاكرتا، عاصمة إندونيسيا، التي تعد أكبر مدينة إسلامية وتحتل المرتبة الرابعة عالميًا من حيث عدد السكان، إذ يبلغ عدد سكانها أكثر من 35 مليون نسمة، لتكون بذلك المدينة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم بعد طوكيو. نحتفل هنا بافتتاح مكتب منتدى العدالة والديمقراطية، الذي يضم مشاركين من 26 حزباً سياسياً من 18 دولة إسلامية. وقد قام الدكتور جزولي جويني، رئيس كتلة حزب العدالة والرفاه في البرلمان الإندونيسي وعضو المنتدى، بتقديم ضيافة كريمة لنا، وقدم لنا نظرة شاملة عن ثقافة وسياسة وموقع إندونيسيا الدولي وتاريخها. وكان للدكتور جويني دور كبير في تطوير فكرة المنتدى، وها هو اليوم يقدم حماسه وتفانيه في تحقيق فكرة افتتاح مكتب للمنتدى في جاكرتا، وبهذا يتجلى لنا في شخصه التصور الكامل لصعود آسيا الذي ظل حاضرًا في أذهاننا.
لا شك أن أي نوع من أشكال التعاون والوحدة في العالم الإسلامي يحمل فوائد عظيمة. لكن من المؤسف أن نرى الأنظمة الحاكمة في دول الشرق الأوسط تعمل على زيادة الانقسامات والتفكك والتباعد بين المسلمين، بدلًا من تعزيز وحدتهم. لا يمكن لأحد أن ينكر أنهم يدركون القوة التي يمكن أن يحققوها إذا اتحدوا، ويبقى الاحتمال الأكبر هو أنهم يتلقون تعليمات بمنع هذه الوحدة، ولا يعد هذا احتمالاً مفاجئاً، فالسبب في وجود الأنظمة في الشرق الأوسط هو التزامها الكامل بهذه المهمة.
ولذلك، في الوقت الذي نتطلع فيه إلى ظهور العالم الإسلامي كقوة مؤثرة بشكل ملموس نجد العديد من الأنظمة العربية تستثمر بشكل يفوق إسرائيل نفسها في محاولة القضاء على حركة حماس. ولا داعي لذكر أن هذه الأنظمة لا تمثل شعوبها العربية بأي حال من الأحوال، بل على العكس من ذلك تؤدي وظيفتها التي تتمثل بعرقلة بمنع المسلمين من تمثيل أنفسهم بأي شكل من الأشكال.
ولكن أرض الله واسعة وعباده كثر، والله سبحانه وتعالى يستبدل من لا يؤدي الأمانة بمن هم أقدر على فعل الخير، وأشد حزمًا في مواجهة الشر، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخشون لومة لائم. وإن أبطال غزة هم من العلامات الباهرة التي أظهرها الله لهذه الأمة. ولكن من سنة الله بعباده أن يعاقب الشعوب التي تملك الإمكانيات ولم تؤد واجبها، برفع شعوب أخرى.
لا شك أن صعود آسيا اليوم له أسبابه الاقتصادية والسياسية والديناميكية، وله بنيته التحتية. ولكن ينبغي عدم تجاهل الحكمة الكامنة في هذا النهوض.
ويُعدّ الشعب الإندونيسي، بنقاء إيمانه وصدقه العميق وإخلاصه، النجم الساطع في سماء العالم الإسلامي. وقد كان من اللافت خلال مأدبة العشاء التي أقيمت بمناسبة افتتاح منتدى العدالة والديمقراطية، دعوة نحو خمسين يتيماً للمشاركة كضيوف شرف. ووفقاً لما أوضحه الدكتور جويني، فإن هذه عادة متأصلة في الثقافة الإندونيسية، حيث يتم إشراك الأيتام في مثل هذه المناسبات كشركاء في الدعاء والبركة. كما يشمل هذا التقليد تقديم “أجرة الضيافة” لهم في ختام المناسبة، في لمسة رائعة تعكس ذروة الرقي واللطف.
تملك إندونيسيا، التي يتجاوز عدد سكانها 280 مليون نسمة ويزيد ناتجها المحلي الإجمالي على تريليون دولار، إمكانات هائلة. وهي الدولة الوحيدة العضو في مجموعة العشرين من رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وتُصنف إندونيسيا اقتصادياً في المرتبة الأولى في جنوب شرق آسيا، والسادسة عشرة عالمياً. ومن المتوقع أن تنضم إلى قائمة أكبر عشر اقتصادات عالمية بحلول عام 2030، وتهدف إلى أن تصبح رابع أكبر اقتصاد عالمي بحلول عام 2045. كما تسعى إلى أن تكون رائدة في صناعة البطاريات في المنطقة، وتُركز إندونيسيا استراتيجيًا على إنتاج معدن النيكل، الذي يُعدّ عنصرا أساسيا في صناعة السيارات الكهربائية.
ومن الناحية السياسية، تُعدّ إندونيسيا ثالث أكبر ديمقراطية في العالم بعد الولايات المتحدة والهند، إذ تمتلك 205 مليون ناخب. وهذه الديمقراطية ليست ديمقراطية صورية كما هو الحال في بعض الأنظمة العربية، بل هي ديمقراطية حقيقية تعمل بكل قواعدها، وتتمكن من تحقيق أعلى مستويات تمثيل المجتمع. ورغم أن 87% من سكانها مسلمون، فإنها تتمتع بمستوى عالٍ من التعايش الديني بين مختلف الأقليات، حيث تمثل الأقليات 13% من السكان. وهذا الوضع يجعل إندونيسيا نموذجًا مهمًا في العديد من المجالات، حيث تقدم إندونيسيا مثالًا مميزًا ومؤثرًا في العلاقة بين الإسلام والديمقراطية والتعايش الديني. ولكن لا نرى هذا النموذج يحظى بالاهتمام الكافي، فإلى أي مدى قد يتوجه الناس للاهتمام بمثل هذه الأمثلة الجميلة؟
وفي الانتخابات الأخيرة التي أجريت في أكتوبر، قام الرئيس المنتخب برابوو سوبيانتو دجوجوهاديكوسومو، في خطوة مثيرة للاهتمام بتشكيل حكومة شاملة تضم أحزابًا لم تدعمه، مما يدل على التزامه الكبير برؤية مستقبلية لإندونيسيا. فعلى سبيل المثال، عيَّن وزيراً مسيحياً لحقوق الإنسان، لكنه يتمتع بفلسفة قوية في هذا المجال، وكان حماسه تجاه القضية الفلسطينية واضحًا في عينيه.
وفيما يتعلق بقضية فلسطين فإنها تعدّ موضوع إجماع كامل في إندونيسيا، ولا يُسمح بأدنى انقسام أو تباين في الآراء حولها. ومن المثير للاهتمام أن رئيس البرلمان ورئيس مجلس الشيوخ، وكذلك العديد من السياسيين الآخرين الذين قمنا بزيارتهم، يتحدثون بفخر عن دعمهم الثابت والمستمر والتزامهم بالقضية الفلسطينية باعتبارها من الثوابت السياسية الجوهرية التي لا تتغير في إندونيسيا. وأثناء حديثي معهم، سألتهم ممازحاً: “ألا يمكن حتى اقتراح تغييرها؟” أما في بلادنا، فحَسبك أن تنظر إلى المواد التي لا يمكن حتى اقتراح تعديلها.
إن افتتاح حزب سياسي إندونيسي مكتبا لمنتدى العدالة والديمقراطية يمثل خطوة ذات مكاسب كبيرة لكل من إندونيسيا والمنتدى. ومن الناحية السياسية، يُعتبر دعم دولة كبيرة في آسيا لمثل هذه المنظمة أمرًا منطقيًا للغاية. كما أن التواصل مع الأحزاب السياسية التي تمثل الشعوب الإسلامية في الشرق الأوسط سيكون له بلا شك تأثيرات إيجابية كبيرة. وبالنسبة لمنتدى العدالة والديمقراطية، فإن وجود مكتب في دولة قوية مثل إندونيسيا، والتي تتمتع بسجل حافل في مجال حقوق الإنسان والحريات، إلى جانب تركيا، سيساهم بشكل كبير في تعزيز جهود المنتدى في مجال العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير والتنمية والتعاون في العالم الإسلامي. ولا شك أن لهذا الأمر فوائد جمة لتركيا أيضًا.
سنواصل نقل انطباعاتنا عن إندونيسيا.