اخبار تركيا

تناول تقرير بصحيفة يني شفق التركية، للكاتب والمفكر سلجوق تورك يلماز، تحليلاً تاريخيًا وسياسيًا للتحولات الجارية في سوريا منذ 8 ديسمبر 2024، من خلال الربط بين الثورة السورية الكبرى عام 1925 بقيادة سلطان الأطرش، والحراك الثوري المعاصر الذي أفضى إلى نشوء نظام جديد بقيادة أحمد الشرع.

ويركّز التقرير على الأثر العميق الذي تركه الانتداب الفرنسي في تشكيل البنية الطائفية والعرقية في سوريا، ودور القوى الاستعمارية لا سيما فرنسا وبريطانيا في ترسيخ نظام سايكس بيكو، الذي يبدو أنه يشهد اليوم انهيارًا تدريجيًا.

كما يناقش الكاتب مواقف القوى الإقليمية والدولية، خاصة تركيا وإسرائيل، من النظام السوري الجديد، مسلطًا الضوء على مشروع إقليمي ناشئ تسعى تركيا ودول الجوار إلى تأسيسه، في ظل تراجع نفوذ القوى الوكيلة التي كانت تعرقل أي تحوّل وطني في المنطقة.

وفيما يلي نص التقرير:

لعل الزمن وحده كفيل بأن يحدد ما إذا كان اسم “الثورة السورية الكبرى” سيترسخ في لغتنا. يذكّرنا هذا التعبير بكتاب “التمرد السوري الكبير” (The Great Syrian Revolt) للكاتب مايكل بروفنس، الذي يسرد فيه أحداث عام 1925. وهو كتاب قيّم للغاية، إذ يروي تفاصيل الكفاح الكبير الذي خاضه السوريون بقيادة سلطان الأطرش ضد الانتداب الفرنسي. وفي الفترة ذاتها، كان البريطانيون يسعون لتأسيس الكيان الإسرائيلي تحت الانتداب على فلسطين.

تمكن الفرنسيون من القضاء على الثورة التي قادها سلطان الأطرش، وسعوا إلى تفكيك سوريا على أسس عرقية وطائفية. ومن خلال بحث موجز، يمكن العثور على مسودات خرائط التقسيم التي وضعتها فرنسا لتحقيق هذا الهدف. فمنذ أن بدأت بفرض هيمنتها على سوريا عام 1920، عملت على تقويض البنية التقليدية القائمة في مختلف المجالات. ونتيجةً لذلك، ورغم أن هيمنة فرنسا الفعلية انتهت بعد الحرب العالمية الثانية، فإن البلاد لم تشهد قيام نظام وطني حقيقي. أما الاضطرابات الكبرى التي اندلعت عام 2011، فقد كانت في جوهرها نتيجة لرفض الأقليات الانتقال إلى نظام وطني جامع، في ظل تصاعد النزعات الانفصالية العرقية والطائفية، وهو ما يعكس مدى عمق البنية التي أرستها فرنسا آنذاك. وعليه فإن عبارة “الثورة السورية الكبرى” تحيلنا من جهة إلى “الانتفاضة الكبرى في سوريا” ضد الانتداب الفرنسي، ومن جهة أخرى تشير إلى التحولات التي شهدها النظام السوري بقيادة أحمد الشرع.

ولكي نفهم الصورة الكاملة للتحول الجديد الذي بدأ في 8 ديسمبر 2024، لا بد أن ننتظر لنرى ما ستؤول إليه الأمور على المدى المتوسط والبعيد. وحده الزمن كفيل بكشف ما إذا كانت هذه الثورة ستفضي إلى بنى دائمة ومستقرة. ولكن ما نراه من تقييمات فورية من قبيل: “لقد أفادت هذا الطرف” أو “خدمت ذاك الطرف”، هي في الحقيقة مبالغات لا قيمة لها. بل إن هذه التقديرات الآنية، للأسف تعكس نوايا مختلفة. أما أكثر ردود الفعل الآنية تدميرًا إزاء الوضع الجديد الذي انبثق في 8 ديسمبر، فقد صدرت عن إسرائيل، التي سارعت منذ الأيام الأولى للثورة إلى شنّ غارات جوية على سوريا. ومن المعروف أن إسرائيل قد تأسست على أرض فلسطين التاريخية خلال فترة الانتداب البريطاني التي امتدت نحو ثلاثين عامًا. إلا أن اللافت في المشهد اليوم هو مسارعة إسرائيل إلى اتخاذ موقف عدائي من النظام السوري الجديد. ومما يذكر أن مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو، كانا ممثليْن لبريطانيا وفرنسا، هاتان الدولتان شكلتا ملامح المرحلة التي أعقبت سقوط الدولة العثمانية.

أما تركيا، فإنها تقف حتماً إلى جانب سوريا. والحقيقة أن الحدث الكبير الذي وقع في 8 كانون الأول/ديسمبر زلزل نظام سايكس بيكو من جذوره. ويُعد ذلك مكسباً استراتيجياً كبيراً لمنطقتنا. لذا لا ينبغي التقليل من شأن تعبير “الثورة”. فمنذ عام 2011، كانت كافة القوى الوكيلة، التي تشكلت بإشراف القوى الإمبريالية، بما في ذلك تنظيم “غولن” و “بي كي كي” الإرهابيين، حاضرة على الساحة بهدف إجهاض الثورة السورية. وكان الهجوم الذي شنّه تنظيم غولن في عام 2014 على شاحنات جهاز الاستخبارات التركي عملية كبيرة ومنظمة. ومع أن الجهات والأشخاص المشاركين في هذه العملية لم يُكشف عنهم بالكامل، فإن ما قاموا به كان يستهدف شلّ يد تركيا عن التحرّك في الملف السوري، لقد أرادوا بكل الوسائل الإبقاء على نظام سايكس بيكو. وفي هذا السياق، فإن دعم بريطانيا الشامل لإسرائيل يحمل دلالات عميقة. فبمؤازرة مخيفة من الأنجلوساكسونيين، باتت إسرائيل تسحق النظام الدولي الذي أنشأته بريطانيا نفسها. ورغم ذلك، من الواضح أن إسرائيل لم تتمكن من إلحاق ضرر كبير بالبنية السياسية الجديدة التي تسعى تركيا والنظام السوري الجديد العمل إلى بنائها معًا.

وتسعى تركيا، بالتعاون مع العراق وسوريا ولبنان والأردن، إلى تأسيس نظام إقليمي واسع النطاق. ويُشير هذا إلى دخول المنطقة في مرحلة صراع عصيبة، إذ إن إصلاح البُنى المؤسسية للدول، إلى جانب محاولة إقامة نظام جديد يحيط بكامل الجغرافيا، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تضحيات جسيمة. ومن الضروري تقييم آثار هذه المرحلة الجديدة على الأفراد والمجموعات من زوايا متعددة. وإذا ما استثنينا التوترات النفسية لدى الأجيال التي اعتادت الخسارة، فإنه يتوجب علينا الانتباه إلى أن البُنى التابعة تقف موقفاً معارضاً جذرياً لهذه المرحلة الجديدة. فمن المعروف أن تنظيم “غولن” الإرهابي لم يتوانَ عن ارتكاب جريمة الخيانة العظمى بحق الوطن خلال حادثة شاحنات الاستخبارات التركية، وقد قُطعت بهذه الحادثة الروابط النهائية التي كانت تربطه بالدين والجغرافيا والوطن والأمة. لقد تسببت القوى الوكيلة، وفي طليعتها هذه البُنى التابعة، بأضرار فادحة لسوريا. صحيح أن الأخطاء التي ارتكبتها تركيا تُناقش اليوم، إلا أن ما ينبغي التركيز عليه فعلياً هو الجهود الحثيثة التي بذلتها تنظيمات كـ”غولن” لإفشال ما تحقق مؤخراً من إنجازات في سوريا. لم تنجح هذه الكيانات التابعة في مسعاها، لكنها تسببت بأذى بالغ. ولكن هذه الكيانات في خضم إلحاقها الضرر بجغرافيا المنطقة، تكبدت خسائر فادحة في القوة والنفوذ. وفي هذا السياق، ومع تضاؤل نفوذهم بدأت إسرائيل بإلحاق ضرر علني وواسع بالنظام الغربي برمّته. ويمكن القول إنها خرجت عن السيطرة . ورغم ذلك لم يستطيعوا عرقلة سلسلة الأحداث التي بعثت الحماسة والأمل مجددًا في عموم المنطقة.

إن المقاومة الكبرى التي خاضتها القوى الوطنية السورية بعد الثامن من ديسمبر تعكس إيمانًا ثوريًا مفعمًا بالأمل.

شاركها.