صالحة علام الجزيرة مباشر

ساعاتٌ قليلة تفصل تركيا عن حدث سيكون له تأثيره وتداعياته على الساحتين السياسية والاجتماعية في البلاد، إذ من المنتظر تسليم مجموعة من عناصر حزب العمال الكردستاني لأسلحتهم الخفيفة لممثلين من الحكومة المركزية العراقية، وسلطة كردستان العراق بأربيل، تحت إشراف كامل من الاستخبارات التركية، في منطقة قريبة من أحد سفوح جبال قنديل، التي تُعد المعقل الرئيسي للحزب في محافظة السليمانية.

عملية التسليم المنتظر إتمامها صباح الجمعة، وإن كانت رمزية في مجملها حيث لن يتخطى عدد المشاركين فيها من عناصر الحزب أكثر من 30 مقاتلًا على أقصى تقدير، وفق ما أفادت به بعض وسائل الإعلام الكردية تهدف إلى التأكيد على تمسك الحزب بخيار السلام، ورغبته الخالصة في المضي قدمًا لسبر أغوار المستقبل، عبر سلوك كافة الدروب السياسية الكفيلة بتحقيق الأمن والاستقرار لجميع مكونات المجتمع التركي، بمن فيهم الأكراد، بعيدًا عن المواجهات العسكرية، في إطار تلبيته لنداء والده الروحي وزعيمه التاريخي عبد الله أوجلان.

حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، الذي يمثل الأكراد على الساحة السياسية التركية، ويتولى مهمة التواصل بين جميع الأطراف الكردية والتركية، عدَّ هذه الخطوة بداية مرحلة تاريخية جديدة في مسيرة تحقيق السلام المنشود، والوصول إلى مجتمع ديمقراطي يساوي بين أفراده في الحقوق والواجبات، ويتمتع الجميع فيه بالحرية والعدالة الاجتماعية دون قيد أو شرط.

وطالب الحكومة بسرعة تشكيل لجنة “السلام والمجتمع الديمقراطي”، التي تم الاتفاق على تشكيلها في البرلمان قبل أن يبدأ عطلته الصيفية، حتى يمكن العمل خلال هذه الفترة على مناقشة التغييرات التي يجب إدخالها إلى حزمة القوانين المعنية بالحقوق، والعدالة الاجتماعية، والحريات الشخصية، وتبادل الآراء بشأن هذه التغييرات، وإعادة صياغة مواد هذه القوانين بما يسمح بعودة عناصر حزب العمال الكردستاني لحياتهم الطبيعية مجددًا، والاندماج ضمن مكونات المجتمع التركي، وممارسة العمل السياسي، تحقيقًا لأهداف مبادرة “تركيا خالية من الإرهاب”، ووضعها موضع التنفيذ ليتم عرضها على البرلمان في بداية دورته التشريعية المقبلة، بغية الانتهاء من هذه القضية التي تؤرق بال الجميع، وتستنزف موارد الدولة البشرية والمالية.

أنقرة كثّفت خلال الأسابيع القليلة الماضية من تحركاتها الأمنية لتنسيق المواقف مع جيرانها بشأن مسألة تسليم العناصر المسلحة الموجودة في الجانبين لأسلحتهم الخفيفة، حيث زار إبراهيم كالن، رئيس جهاز الاستخبارات التركية، بغداد، والتقى رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني، كما زار أربيل واجتمع بالعديد من مسؤوليها، لتبادل المعلومات الاستخبارية، ووضع الترتيبات الأمنية اللازمة التي يجب أن تتزامن مع عملية تسليم السلاح المزمع القيام بها من جانب عناصر الحزب الموجودين في كل من العراق وكردستان العراق.

لكن التحرك السياسي صوب تحقيق المطالب التي طالبت بها عناصر الحزب في مقابل إعلان تخليها عن نهجها العسكري ضد الدولة التركية، وحل الحزب، وتسليم أسلحته، لا يزال يكتنفه نوع من الغموض والضبابية، مما يثير التساؤلات، خاصة بعد أن أبدت هذه العناصر حسن نياتها على أكثر من صعيد، وأكدت رغبتها أكثر من مرة في بدء صفحة جديدة.

فلا يزال الموقف الرسمي للدولة التركية رهين تباين الرؤى، التي تحكمها المصالح الحزبية المتضاربة، وتؤثر فيها بصورة مباشرة الأوضاع السياسية الداخلية، والأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد، والتطورات الإقليمية التي تحيط بجغرافية تركيا على وجه العموم، وهو الموقف الذي يُظهر حالة من القلق العميق يمكن رصده في التصريحات التي أدلى بها الرئيس أردوغان نفسه.

فعلى الرغم من إقراره بأن ما وصفه بـ”العملية الجارية لجعل تركيا خالية من الإرهاب يمكن أن تكتسب زخمًا أكبر قليلًا مع بدء المنظمة الإرهابية في إشارة لحزب العمال الكردستاني تنفيذ قرارها الخاص بتسليم أسلحتها”، فإنه شدد على “أن عملية إلقاء السلاح المنتظرة يجب أن تتم دون شروط، كما سبق أن أعلنا. قلنا من قبل إن عليهم حل هيكلية الحزب، وقد تحققت هذه الخطوة، الآن عليهم المضي قدمًا في تنفيذ قرار إلقاء السلاح وتسليمه حتى يمكن الإسراع في تحقيق مبادرة تركيا خالية من الإرهاب، نحن نتابع بدقة بالغة كل خطوة، ولن نسمح بأية استفزازات من شأنها عرقلة هذه المسيرة”.

تصريحات أردوغان هذه تشير بوضوح تام إلى أن النخبة السياسية الحاكمة في تركيا ترى أن الحل الأمثل لتحقيق مبادرة “تركيا خالية من الإرهاب” يرتكز على مرحلتين أساسيتين:

المرحلة الأولى يتولى فيها حزب العمال الكردستاني المهمة كاملة، عبر تلبية كافة تعهداته، من حل نفسه، وتفكيك هيكله الإداري، والتخلي تمامًا عن جميع أنواع الأسلحة التي بحوزته، وفك ارتباطاته بالجهات الخارجية التي تسانده، وتؤمن له الدعم العسكري واللوجستي، وتمده بالأموال والأسلحة.

وهي مرحلة لا تلتزم فيها الحكومة التركية بأي التزام، ولا تكون مضطرة خلالها للقيام بأي شيء من شأنه الانتقاص من هيبتها، أو انتهاج سياسة من شأنها إضعاف صورة الدولة أمام تنظيم يوصف في نهاية المطاف على الصعيد الداخلي بأنه “إرهابي”، أو اتخاذ قرارات مصيرية أو المضي قدمًا في طرح إصلاحات قانونية ودستورية تؤمن لعناصر الحزب استعادة هويتهم وممارسة حياتهم الطبيعية، ودورهم السياسي في المجتمع مقابل التزامهم بتعهداتهم، مما قد يعرضها لانتقادات داخلية، أو يعصف من الأساس بوجودها على رأس السلطة في البلاد.

أما المرحلة الثانية، فتبدأ مع انتهاء حزب العمال الكردستاني من تنفيذ كافة التزاماته، وهي المرحلة التي ترتبط مباشرة بالتحرك الرسمي، والخطط التي تنوي الحكومة اعتمادها في التعاطي مع عناصر حزب العمال الكردستاني، حسب تصنيفها لهم، والحيز الذي يمكن أن تتحرك فيه وفق ما ستمنحه لها الأوضاع الداخلية، والتطورات الخارجية من حرية الحركة، دون أن تتعرض لأي ضغوط لا سياسية ولا اجتماعية، ودون جدول زمني محدد.

وهي نفس السياسة التي انتهجها حزب العدالة والتنمية الحاكم حينما أراد إطلاق حرية ارتداء الحجاب، وتقنين حق المحجبات في ممارسة حياتهن بحرية وفق رؤيتهن الخاصة، بالتناسق مع ما تقره قوانين المواطنة، وآلية التعاطي بين أفراد المجتمع المعمول بها في البلاد، استجابة لمطالب قاعدته الشعبية.

فقد استغرقت هذه العملية منه عدة سنوات للوصول إلى النتيجة التي أرادها، متبعًا سياسة “الخطوة خطوة”، حتى لا يثير حفيظة أو غضب أي من اليساريين أو العلمانيين أو الكماليين من أصحاب الأصوات المرتفعة آنذاك، بالرغم من أن هذه السياسة سبق أن عرضته لكثير من الانتقادات من الإسلاميين والمحافظين الداعمين له.

تبدو المخاطرة الة بهذه القضية من وجهة نظر الحزب الحاكم أكبر بكثير من سابقتها، فأحزاب المعارضة تقف للحكومة بالمرصاد، وتنتظر بفارغ الصبر فشلها في إدارة هذه القضية لتعزيز موقفها، وإعادة تشكيل المشهد السياسي في البلاد، بما يؤمن لها فرصة ذهبية للفوز في أي انتخابات مقبلة.

وهناك الخوف من تصاعد حدة التوتر بين القوميين الأتراك ونظرائهم الأكراد، في ظل إمكانية رفض الأحزاب القومية لأي تنازلات مفرطة من جانب الحكومة، بما يهدد استمرار التحالف السياسي القائم بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، ومن ثم فقدان السلطة في البلاد.

وهو ما يعني أن يصبح المشهد السياسي أكثر استقطابًا، ويؤدي إلى خروج الاحتجاجات والتظاهرات إلى الشارع، خاصة إذا ما شعر أي طرف منهما بأن هذه المبادرة تهدد حقوقه ومصالحه، أو تنتقص منها.

ومن هذا المنطلق، تخطو النخبة السياسية التركية بتأنٍّ واضح، وخطوات مدروسة بعناية فائقة، لإحلال السلام وتحقيق المصالحة، والحد من إمكانية انزلاق الوضع، أو حدوث مواجهات بين أبناء الوطن الواحد، من شأنها القضاء على الأخضر واليابس.

عن الكاتب


شاركها.