اللحظة السورية في خضم التحولات الاستراتيجية في العالم المعاصر…

وائل مرزا (فيسبوك)
نحن، كسوريين، نعيشُ لحظة سوريا في هذا العالم الكبير والمعقد. هذا ماتُظهرهُ رسالة السفير الأميركي في تركيا توم باراك، بعد اجتماعه أمس مع الرئيس السوري أحمد الشرع. علماً أن السفير هو الآن المسؤول الأميركي الأول عن الملف السوري، وعلاقته المباشرة بالرئيس ترامب لاتمرُّ عن طريق وزير الخارجية روبيو! ويَظهر حجم الدلالة حين نعرف أن أول جهة ترجمت النص ونشرتهُ بالعربية، هي السفارة الأميركية في دمشق.
نحن هنا، مرةً أخرى، ، كسوريين، بإزاء عالمٍ يتغير على وقع التحولات الكبرى. وهذه المرة، تقودُ الولايات المتحدة الأميركية، بقيادة إدارة ترامب الحالية، مايبدو مشهداً جديداً، قد يُعيد رسم ملامح النظام الدولي، بعيداً عن تلك الخرائط القديمة التي حكمت منطقتنا منذ اتفاقية سايكسبيكو قبل أكثر من قرن.
فالتصريح الأخير للسفير الأميركي في تركيا والمسؤول عن الملف السوري، توم باراك، لا يمكن اعتباره مجرد بيان عابر. (اقرأ النص تحت) إنه وثيقةٌ سياسية تعكس عمق التحول الذي تتبناه الإدارة الأميركية في مقاربة شؤون الشرق الأوسط عموماً، وسوريا تحديداً.
ففي تصريحه الذي ترجمته السفارة الأميركية في دمشق ونشرته رسمياً أعلن بوضوحٍ غير مسبوق عن نهاية حقبة الوصاية والتدخلات الغربية التقليدية، وبداية عهد الحلول الإقليمية المبنية على الشراكات الحقيقية والاحترام المتبادل.
ثمة في قلب كلام باراك، اعترافٌ تاريخي بأن الخرائط التي رسمتها القوى الغربية (الاستعمارية) في بدايات القرن العشرين، وفي مقدمتها سايكسبيكو، لم تكن مشروع سلام، وإنما مايعرفه أهل المنطقة، مشروعاً لتحقيق مصالح استعمارية ضيقة كلّفت شعوب المنطقة أجيالاً كاملة من الدماء والدموع.
واليوم، للمرة الأولى في التاريخ المعاصر، يعلن مسؤول أميركي بهذا الوضوح: لن نسمح بتكرار الخطأ نفسه.
سوف يتصاعدُ، في أميركا نفسها، وفي المنطقة والعالم، جدلٌ كبير حول دلالات هذا الخطاب، والذي يبني على الكلمة التي ألقاها ترامب نفسهُ في الرياض خلال زيارته لها. وسوف يتساءل كثيرون، مُحٍّقين، عن مدى جدية مضمون الخطاب المذكور أولاً، ثم عن إمكانية تطبيقه على أرض الواقع، بعد ذلك! والمسألةُ، في العلاقات الدولية، لاتتعلق بحُسنِ الظن، أو سوءِ الظن، بقدر اعتمادها على المتابعة والمراقبة، والتحليل والحسابات، للوقائع والأحداث.
رغم كل ذلك. يبقى واضحاً أن هذا الموقف يُمثل تحولاً استراتيجياً مهماً:
فهو يقول أن القوة العظمى الأكبر في العالم لم تعد ترى الشرق الأوسط مجرد ساحة اختبار لنفوذها، أو أرضاً تُلقى عليها محاضرات الإدارة والحكم من الخارج.
بل صار المستقبل، كما يقول باراك، رهيناً بالحلول التي تصنعها شعوب المنطقة نفسها، ولشراكات تقوم على المصالح الواقعية، لا على أوهام الهيمنة العابرة.
وتتضحُ هذه الرؤيةُ، بشكلٍ خاص، في السياق السوري. فمع سقوط نظام الأسد، يتحدث باراك عن بابٍ مفتوح للسلام. سلامٍ لا يقوم على رسم حدود جديدة، بل على إعادة الكرامة والقرار إلى السوريين أنفسهم. ومع إعلان رفع العقوبات، نجد اعترافًا بأن الشعب السوري يجب أن يكون المحور في أي خطة لإعادة الإعمار، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.
ليست صدفةً أن يربط باراك، في كلمته، ولادة سوريا من جديد بـ “الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها”؛ فهي ثلاثيةٌ تُلخص فلسفة هذا التحول: لا وصاية، لا إملاء، لا محاضرات؛ بل شراكة تضمن لسوريا، ومعها المنطقة، مستقبلاً ينبع من إرادة أبنائها، لا من توازنات الخارج وحدها.
وهكذا، ربما تُظهر الأسابيعُ والأشهر القادمة أننا أمام مشهدٍ تتشكلُ فيه ملامح نظام دولي جديد: أميركا ترامب تنأى بنفسها عن التدخلات العسكرية التقليدية، وتعيد تموضعها كراعٍ لتفاهمات إقليمية تحترم سيادة الدول وخيارات الشعوب، فيما يتغير ميزان القوى على مستوى العالم: من أوروبا الغارقة في أزماتها، إلى صعود آسيا، إلى تحولات غير مسبوقة في منطقتنا.
في هذا السياق، تبدو اللحظة السورية في تجلّيها الأكبر، متمثلاً في أنها ليست مجرد مسألة محلية، وإنما هي جزءٌ من مخاضٍ عالمي أكبر.. مخاضٍ يَكتب فيه الزمن صفحة جديدة، تُفتح فيها أبواب السلام بقدر ما تُغلق فيها أبواب الوصاية والتدخل.
قد يبدو هذا التصور، لكثير من السوريين، وحتى للنخب منهم، وكأنه كلام كبير أو طموح غير منطقي.. رغم ذلك، من الضرورة بمكان التأكيد على أن العالم مترابط بشكل معقد، بحيث تترابط أزماته وقضاياه من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وتتبادل التأثيرات والتداعيات بين جميع أطرافه. ويجدر في ذالك السياق الأخذُ بالاعتبار حقيقة إن موقع سوريا الجيوستراتيجي الفريد في قلب هذا العالم، يفرض عليها دوراً محورياً في هذه التغييرات، سواء شاءت أو لم تشأ.
نحن نعرف أنه، وسط هذا الزحام العالمي، ثمة لحظة سورية فاصلة تتجاوز حدودها الوطنية الضيقة، وهي لحظة دفعت الكثير من مراكز الأبحاث والدراسات في العالم لتسليط الضوء على ما جرى في سوريا، ليس فقط بوصفه صراعاً سياسياً أو أمنياً، بل كظاهرةٍ مُركّبة تتقاطع فيها السياسة مع الفكر والثقافة. وهذه المراكز تسعى لدراسة وتحليل وفهم ما كشفته التجربة السورية من تحولات اجتماعية وصراعات فكرية عميقة، سواء على مستوى القيادات والأفراد أو في مجمل الصيرورة الاجتماعية التي شهدتها البلاد.
من هنا، تأتي ضرورة أن تدرك النخب السورية، على وجه الخصوص، هذه الحقيقة الجوهرية وتعيد النظر في تصوراتها وطرق تفكيرها ومناهج عملها الواقعي على الأرض. وهذه النقلة المطلوبة في وعي النخب السورية ليست مجرد ترف فكري، بل إنها حاجةٌ مُلِحّة لقراءة اللحظة السورية بكل أبعادها المتشابكة: السياسية والاقتصادية والثقافية. وهي التي يمكن أن تُمكِّنَ السوريين من تحويل ما جرى في بلادهم إلى فرصة تاريخية، بدلاً من استمرار التعامل معها على أنها مجرد أزمة أو مأساة، أو تحول سياسي عابر، في أحسن الأحوال، من وجهة نظر النخبة!
إن العالم ينتظرُ من سوريا أكثر مما يظن السوريون أنفسهم.
وإذا كان التاريخ قد علَّمنا شيئاً، فهو أن الشعوب التي تعي قدرها، وتعرف كيف تدير شؤونها بعيداً عن الأوهام من جهة، وعن عقلية استصغار الذات من جهةٍ أخرى، هي وحدها القادرة على انتزاع مكانتها في عالمٍ يتغير كل يوم.