د. علي محمد الصلابي خاص اخبار تركيا

يُعدّ عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه من أبرز العصور التي تجلّت فيها معالم الدولة الإسلامية الراشدة في صورتها المتكاملة، حيث رسّخ ذو النورين مبدأ المرجعية العليا للدولة في كتاب الله وسنّة رسوله ﷺ، مقتدياً بمن سبقه من الخليفتين الراشدين أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما. وقد تميزت دولته بالالتزام الصارم بأحكام الشريعة، وإعلاء سيادتها فوق كل تشريع، مع اعتماد مبدأ الشورى أساساً للحكم والإدارة. فكانت مرجعية الدولة الدينية والسياسية متكاملةً، تُجسّد نموذج الحكم الإسلامي العادل الذي يقوم على الطاعة لله، والعدل بين الرعية، والمشاورة في القرار.

وقد أعلن ذو النُّورين رضي الله عنه بوضوح أنَّ مرجعيته العليا لدولته كتاب الله، وسنَّة رسوله ﷺ، والاقتداء بالشَّيخين في هديهم، فقد قال:… ألا وإنِّي متَّبعٌ، ولست بمبتدعٍ، ألا وإنَّ لكم عليَّ بعد كتاب الله، وسنَّة نبيِّه ﷺ ثلاثاً: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه، وسننتم (1).

فالمصدر الأول هو كتاب الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [ النساء: 105]. فكتاب الله تعالى يشتمل على جميع الأحكام الشَّرعية الّتي تتعلَّق بشؤون الحياة، كما يتضمَّن مبادىء أساسيَّةً، وأحكاماً قاطعةً لإصلاح كلِّ شعبةٍ من شعب الحياة، كما بيَّن القرآن الكريم للمسلمين كلَّ ما يحتاجون إليه من أسسٍ تقوم عليها دولتهم. والمصدر الثَّاني هو السنَّة المطهَّرة، الّتي يستمدُّ منها الدُّستور الإسلاميُّ أصوله، ومن خلالها يمكن معرفة الصِّيغ التَّنفيذيَّة، والتطبيقيَّة لأحكام القرآن (2).

ثم الاقتداء بالشَّيخين، قال رسول الله ﷺ: «اقتدوا بالَّذين من بعدي: أبي بكرٍ، وعمر» (3). إنَّ دولة ذي النُّورين خضعت للشَّريعة، وأصبحت سيادة الشَّريعة الإسلاميَّة فيها فوق كلِّ تشريع وفوق كلِّ قانونِ، وأعطت لنا صورةً مضيئةً مشرِّفةً على أنَّ الدَّولة الإسلاميَّة دولة شريعةٍ، خاضعةً بكلِّ أجهزتها لأحكام هذه الشَّريعة، والحاكم فيها مقيَّد بأحكامها، لا يتقدَّم، ولا يتأخَّر عنها (4)، ففي دولة ذي النُّورين، وفي مجتمع الصَّحابة، الشَّريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم، والمحكوم، وطاعة الخليفة مقيَّدةٌ بطاعته لله، قال رسول الله ﷺ: «لا طاعة في المعصية، إنَّما الطَّاعة في المعروف» (5)، وهيمنة الشَّريعة على الدَّولة من خصائص الخلافة الرَّاشدة، فحكومة الخلافة الرَّاشدة تتميَّز عن الحكومات الأخرى بعدَّة خصائص، منها:

أ أنَّ اختصاصات الحكومة (الخليفة) عامَّة؛ أي: تقوم على التَّكامل بين الشُّؤون الدُّنيويَّة، والدِّينيَّة.

ب أنَّ حكومة الخلافة ملزمةٌ بتنفيذ أحكام الشَّريعة.

جـ أنَّ الخلافة تقوم على وحدة العالم الإسلاميِّ (6).

ومن مصادر مرجعية الدولة والأمة في عهد عثمان رضي الله عنه (الشورى)، فإنَّ من قواعد الدَّولة الإسلاميَّة حتميَّة تشاور قادة الدَّولة وحكَّامها مع المسلمين والنُّزول على رضاهم، ورأيهم، وإمضاء نظام الحكم بالشُّورى، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]. وقد اتَّخذ عثمان رضي الله عنه في دولته مجلساً للشُّورى يتألَّف من كبار أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار (7)، وقد طلب عثمان رضي الله عنه من العمَّال، والقادة قائلاً: أمَّا بعد: فقوموا على ما فارقتم عليه عمر، ولا تبدِّلوا، ومهما أشكل عليكم؛ فردُّوه إلينا نجمع عليه الأمَّة، ثم نردُّه عليكم (8)، فأخذ قادته بذلك، فكانوا إذا همُّوا بالغزو، والتقدُّم في الفتوحات الإسلاميَّة؛ استأذنوه، واستشاروه، فيقوم هو بدوره بجمع الصَّحابة، واستشارتهم للإعداد، والإقرار، والتَّنفيذ، ووضع الخطط المناسبة لذلك، ومن ثمَّ يأذن لهم (9)، فقد قام عبد الله بن أبي سرح، بالكتابة إلى الخليفة عثمان رضي الله عنه طالباً منه أن يأذن له بأن يغزو أطراف إفريقيَّة، وذلك لقرب جزر الرُّوم من المسلمين، فأجابه الخليفة عثمان إلى ذلك بعد المشورة، وندب إليه النَّاس (10)، كما أنَّ معاوية بن أبي سفيان حين أراد فتح جزيرة قبرص، ورودس؛ فعل الشَّيء نفسه في استشارة القيادة العليا المركزيَّة، وطلب الإذن بالسَّماح له، ولم يأته الجواب إلا بعد انعقاد مجلس الشُّورى، وبحثه في الموضوع، ومن ثمَّ السَّماح له (11).

وكان قادة الخليفة عثمان رضي الله عنه في إدارتهم للمعارك الحربية يتشاورون فيما بينهم (12).

كما شاور عثمان كبار الصَّحابة في جمع القرآن، وفي قتل عبيد الله بن عمر للهرمزان، وحول التَّدابير الكفيلة بقطع دابر الفتنة، وفي مقام القضاء، وغير ذلك من المواقف، والأحداث الّتي سيأتي بيانها في محلِّها بإذن الله.

المصادر والمراجع:

([1]) تاريخ الطَّبري (5/443).

(2) فقه التَّمكين في القرآن الكريم، علي محمد الصَّلاَّبي، ص 432.

(3) صحيح سنن التِّرمذيِّ، (3/200).

(4) نظام الحكم في الإسلام، عارف أبو عيد، ، ص 227.

(5) البخاريُّ، رقم (7145).

(6) فقه الخلافة، للسَّنهوري، ص(80).

(7) الإدارة العسكريَّة في الدَّولة الإسلاميَّة نشأتها وتطوُّرها، الدُّكتور سليمان بن صالح بن سليمان آل كمال، (1/277).

(8) المصدر السابق نفسه، (1/277) نقلاً عن تاريخ الطَّبري.

(9) فتوح مصر، أبو القاسم عبد الرَّحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، ص (83).

(10) المصدر السَّابق نفسه، ص(183).

(11) الإدارة العسكريَّة في الدَّولة الإسلاميَّة نشأتها وتطوُّرها، الدُّكتور سليمان بن صالح بن سليمان آل كمال، (1/278).

(12) المصدر السَّابق نفسه.

عن الكاتب


شاركها.