ياسين أقطاي يني شفق

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}

خلق الله الإنسان من قطرة ماء وأسدل عليه كل أصناف النعم، فإذا به يتجاهل أصل خلقِه، ويرى نفسه مكتفياً بذاته ومستغنيًا عن خالقه فلا يسأله، ولا يتوكَّل عليه، ولا يشكره على نعمائه.

لقد علّم الله الإنسان ما لم يعلم؛ ووهبه عقلاً ليتفكر، وقلباً ليشعر، ولساناً يعبّر به عن خواطره ومكنوناته. ولكن الإنسان جحد هذه النهم ووهبها لنفسه، وظن أنها ملكٌ دائمٌ لا يزول. فمنذ نشأته ال وجد النِّعَم حاضرة بين يديه، فلم يتساءل عن مصدرها الحقيقي أو عن الغاية من وجودها.

هذه هي حال الإنسانية عامة: ضياع وخسران متواصل، إذ لا تُطرح الأسئلة الكبرى، ولا يُسعى وراء إجاباتها. مع أن طبيعة وجود الإنسان تفرض عليه هذه التساؤلات. فكلما ازداد العلم وتعمقت معارفنا في تشريح الإنسان والكيمياء الفيزيائية، ازدادت هذه الأسئلة إلحاحًا حول مصدر هذه الروعة والإتقان. غير أن تجاهل هذه الأسئلة مع تقدم العلم يكشف عن غفلة متزايدة وعلمانية متصلبة، تُبرز أكثر فأكثر طبيعة الإنسان الجاحدة المتنكرة. وهكذا، يغدو الإنسان في خسران عظيم، وثمن هذا الخسران هو خضوع البشر للبشر، وعبوديتهم للأهواء والشهوات، وما يتبع ذلك من ظلم واضطهاد واستغلال ومجازر وفساد يصيب الكرامة والنسل. أما أن يرى الإنسان نفسه مكتفيًا بذاته، فذلك عين الجاهلية والظلمة.

لقد أنعم الله على البشرية برحمته، فأرسل إليها أنبياء ليخرجوها من ظلمات الجهل. واختار أن يكون أنبياءه بشرا، يأكلون ويشربون مثلنا، ويتكلّمون بلساننا، ويفهمون همومنا ومشاعرنا. وهذه نعمة عظيمة؛ لأنها تجعل الصلة بالوحي أوثق، وتكسر حواجز الغربة مع الخطاب الإلهي. فلو أُرسل إلى الملائكة لكان مَلَكًا، ولو أُرسل إلى الجن لكان جنيًّا. أما وقد أُرسل إلى البشر، فمن الحكمة الإلهية البالغة أن يكون إنسانًا، وهذا تدبير يستحق الإعجاب والتفكر.

أما سيدنا محمد ﷺ، خاتم الأنبياء، فهو رحمة للعالمين، نموذج لكل القيم الإنسانية التي تحتاج إليها الأمم والشعوب عبر العصور. سيرته ﷺ تمثل الأسوة الحسنة في أبلغ صورها، فيستطيع كل إنسان أن يرى فيها ما يعكس فطرته، ويشعر بالقرب منه، فيقول في قلبه: “إنه واحدٌ منا”، ويجد في شخصه المثال الذي يقتدي به.

ولا ريب أن القرآن أوجب علينا أن نُعلي من مكانته ﷺ، ونميزه عن سائر البشر. فهو منّا، ولكن اختاره الله تعالى ليكون النموذج الأمثل للإنسان والسّلطة المرجعية العليا، وجسّد فيه القرآن، وجعل سيرته وجهاده التفسيرَ الأصدق والأعمق لهذا الكتاب. وهكذا أصبحت سنته حصناً منيعاً في وجه أولئك الذين يريدون أن يُطلقوا العنان لأنفسهم ويخضعوا النص لأهوائهم، أو أهواء الآخرين وتأويلاتهم.”

وبالمثل، فقد هيّأ المفسرون والعلماء مناخًا معرفيًّا وظلًا فكريًّا وارفًا يُيسِّر سبل الفهم على من قد يجد صعوبة في التعامل مع النص القرآني مجردًا. وهذا ما دفع سيد قطب إلى أن يطلق على تفسيره اسم”في ظلال القرآن”.

إن الله سبحانه وتعالى لم ينزل القرآن علينا كتابًا مكتمل الأجزاء موضوعًا بين دفّتين فحسب، بل أنزله كتابًا متجسدًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام؛ يُعاش واقعًا، ويُفسَّر من خلال التجربة الحيّة، ومن هنا فإن محاولة فصل السنة النبوية عن القرآن لا تعني تعظيم القرآن، بل على العكس تمامًا، بل يحرمنا من طبيعته الأصيلة ومن فيض ظلاله المباركة.

وفي زماننا هذا، تبرز الحاجة الملحّة إلى ترسيخ منهج في دراسة السيرة النبوية يتجاوز طرفي الإفراط والتفريط: طرفٌ يُفرط في تبسيط شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكاد يحصرها في مجرد ناقلٍ للرسالة بلا أثر حضاري وروحي، وطرفٌ آخر يرفعه إلى مرتبة فوق بشرية، متجاوزًا حقيقة كونه “مِنّا” بإنسانيته. وبين هذين الطرفين، تتجلى قيمة الجهود العلمية التي وازنت بين علو رسالته وواقعية بشريته. وفي هذا الإطار سبق أن سلّطتُ الضوء على العديد من أعمال السيرة، وأضيف اليوم إليها بإعجاب كبير كتاب الأستاذ أحمد أوزل الجديد “في أثر الحياة المباركة” كمساهمةٍ قيّمة، ويُعدّ هذا الكتاب الصادر عن دار “تيماش” هذا العام، ثمرة قيّمةً لجهود عميقة بذلها المؤلف على مدى سنوات. وقد كتبه الأستاذ أحمد صاحب الكتاب القيم “النبي القائد محمد ﷺ” والذي حقق العديد من الأعمال الأخرى محافظاً على هذا التوازن المنشود، معبراً عن رؤيته للسيرة في حواره السابق مع صحيفتنا بهذه العبارات بالذات:

“إنَّ أدبيات السيرة في العصور الكلاسيكية كانت تتميّز بهذه السمة؛ غير أنّنا حين ننظر إلى ما كُتب تحت تأثير الغرب، نجد أن الفكر الوضعي والمادي قد طبع تلك الكتابات بطابعه، حتى غدا النبي ﷺ يُقدَّم مجرداً من المعجزات والكرامات. حتى إن أكثر كتب السيرة إنصافاً في هذا التيار لا تقدمه إلا كـ”قائد ناجح” أو “قائد عسكري مُحنك”. ومآل هذا الفهم، في نهاية المطاف، إنزالُ مقام النبي ﷺ حاشاه إلى مرتبة “ساعي بريد” لا غير، ورفضُ علم الحديث وما يحمله من بيان وهداية. ويصل إلى حد إنكار علم الحديث جملة وتفصيلاً. حتى إن بعض أساتذة كليات الشريعة يجترئون على القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك صلاحية تفسير القرآن، رغم وجود عشرات الآيات التي تثبت ذلك، فإذا أنزل الله تعالى رسالة، فمن الذي يمكن أن يلجأ إليه المخاطبون ليسألوه عما لم يفهموه؟ أليسوا سيسألون من جاءهم بالرسالة؟ فهل سيقول لهم: “لا أعلم”؟ أي عقل هذا وأي منطق؟ وللأسف الشديد، نشأ في العالم الإسلامي فكرٌ ينكر علم السيرة والحديث. وتعمل جماعات دينية وسياسية مختلفة، وأعداء الإسلام، على تصوير النبي صلى الله عليه وسلم كإنسان عادي لا صلة له بالله. لكن العلماء في العصور السابقة قد تصدّوا لهذه الشبهات، ووضعوا معايير دقيقة لتنقية التراث. واليوم، ومع ما توفر من إمكانيات تقنية وأدوات بحثية، يمكن إضافة معايير كثيرة إلى تلك الجهود.”

إن النبي ﷺ وهو الشخصية الوحيدة الجديرة بأن تُعتبر قائدًا وقدوةً حسنة في الدنيا لا يمكن اتباعه بصدق دون فهمٍ عميق ومعرفةٍ صحيحة به. وأقصر السبل لمعرفته هو تدبّر القرآن، لكن إدراك معاني القرآن على الوجه الأكمل لا يتيسر إلا بمعرفة سيرته. ومن هنا، يأتي كتاب الدكتور أحمد أوزَل في السيرة النبوية ليقدّم عملاً قيّمًا حري بنا أن نقرأه في هذه الأيام التي نحيي فيها ذكرى مولد النبي الكريم.

عن الكاتب


شاركها.