اخبار تركيا
تناول مقال تحليلي للكاتب والخبير التركي سلجوق تورك يلماز، تفكك الأساطير المؤسسة التي روّجتها الدعاية الغربية حول “إسرائيل” واليهود، خاصة بعد تكشّف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في غزة من تطهير عرقي وإبادة جماعية وتجويع ممنهج بحق الفلسطينيين.
ويسلّط تورك يلماز في مقاله بصحيفة يني شفق الضوء على التواطؤ الغربي — وخاصة البريطاني — في هذه الجرائم، من خلال الضغط على المحكمة الجنائية الدولية وتهديد رئيسها، ما يكشف استمرارية تاريخية للإرث الاستعماري لا مجرد خيانة للقيم.
ويرصد الكاتب أيضًا التحوّل العالمي المتسارع في الموقف من إسرائيل، وظهور أصوات جديدة من داخل الغرب وخارجه تُدين المشروع الاستيطاني الصهيوني وتوثّق عدالة القضية الفلسطينية. وفيما يلي نص المقال:
لقد انهارت الأساطير التي نسجتها أفلام الهولوكوست وحملات الدعاية الإعلامية حول إسرائيل، واحدة تلو الأخرى. فقد دمّر الصهاينة العالم الخيالي الذي نسجوه حول اليهود، من خلال عمليات الاستعمار الممنهج، والتطهير العرقي، والتهجير القسري، والإبادة الجماعية التي مارسوها بحق الفلسطينيين. واليوم يرى العالم بأسره تقريبًا نتائج التوسع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ويبحث عن موقع جديد له في مواجهة الغرب الأنجلو ساكسوني. لقد بدأت الأساطير المؤسسة حول “إسرائيل” واليهود تفقد سحرها لتُستبدل بشيء آخر. وماهية هذا “الشيء الآخر” يصعب تحديدها بدقة، ولكن من الطبيعي تمامًا أن يفكر العالم خارج الغرب الأنجلو ساكسوني أنهم يتعرضون للتهديد من خلال ما يجري في فلسطين. وفي هذا السياق، تكتسب كلمات الرئيس الكولومبي “غوستافو بيترو” دلالة خاصة ومغزى كبيرا، إذ قال:
“غزة هي تجربة يحاول فيها الأثرياء الكبار أن يظهروا لشعوب العالم كيف سيردون على تمرد البشرية؛ إنهم يخططون لقصفنا جميعاً…”
ولا يمكن التقليل من أهمية هذه التصريحات أو اعتبارها مجرد مناورات سياسية. فاليوم لم تعد التهديدات التي يتعرض لها رئيس المحكمة الجنائية الدولية كريم خان أمرًا يمكن التغاضي عنه. وقد كشفت صحيفة “ميدل إيست آي” عن مدى جدية التهديدات التي يتعرض لها كريم خان. ففي مايو الماضي، نشرت الصحيفة تقريرًا عن محادثة جرت بين كريم خان والمحامي البريطاني الإسرائيلي لدى المحكمة الجنائية الدولية نيكولاس كوفمان، قيل فيها لكريم خان: “سيدمّرونك أنت والمحكمة”.
وفي مقال سابق للصحيفة كتبه كل من ديفيد هيرست وعمران ملا، ورد أن ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ووزير الخارجية آنذاك، قد اتصل بكريم خان وهدده صراحة. وقد ذكرت الصحيفة أن كاميرون قال خلال المكالمة: “إن الحكومة البريطانية ستوقف تمويل المحكمة الجنائية الدولية وستنسحب منها إذا أصدرت المحكمة مذكرات توقيف بحق القادة الإسرائيليين.” وقد أثار هذا الحدث الذي وقع في نيسان/أبريل 2024 صدى واسعًا وضجة كبيرة عند نشره.
واليوم يسير زعيم حزب العمال ورئيس وزراء بريطانيا الحالي، كير ستارمر، على نفس خطى ديفيد كاميرون. فقبل أن تبدأ جريمة الإبادة الجماعية في غزة باستخدام سلاح التجويع، صرح ستارمر في ديسمبر الماضي بأنه “لا ينبغي وقف إطلاق النار”. وقد بدأت المجازر الجماعية الراهنة عندما قال ستارمر إن “إسرائيل لها الحق في قطع الغذاء والماء والكهرباء عن غزة”. ولا نبالغ إذا قلنا إن بريطانيا متورطة في جرائم غزة أكثر من الولايات المتحدة. ومع أن انخراط بريطانيا وتورطها في هذه الجرائم واضح كالشمس، فإنّ كثيرين يتجاهلون ذلك عمدًا، وللأسف لا يزال في أذهان الغالبية نوعٌ من الانبهار ببريطانيا. غير أن الوقائع التي تورّط فيها السياسيون البريطانيون تجري على مرأى ومسمع من العالم أجمع. بل إنّ تصريحات ستارمر في ما يتعلّق بسلاح التجويع تشير إلى موقف متطرف.
وبينما يصر السياسيون والنخب البريطانية على الوقوف إلى جانب إسرائيل رغم ارتكابها جريمة الإبادة الجماعية بسلاح التجويع، فإن تصريح المؤرخ الإسرائيلي عومر بارتوف، الذي يُعرف نفسه كخبير في الهولوكوست، في مقال طويل نُشر في صحيفة “نيويورك تايمز”، يُعد ذا أهمية قصوى، حيث قال فيه: “حرب إسرائيل في غزة تُطابق التعريف القانوني للإبادة الجماعية”. وهذه شهادة تُدركها بريطانيا نفسها؛ فهي تعلم تمامًا أن ما يحدث في غزة هو إبادة جماعية. ويقول عومر بارتوف: “لقد خان الاتحاد الأوروبي القانون الدولي، والتاريخ، وقواعده الخاصة، لتحقيق مصالحه الجيوسياسية والاقتصادية”.
في الحقيقة لا أتفق تمامًا مع رأي بارتوف. فجميع الأساليب والأدوات التي تستخدمها إسرائيل في توسعها الاستعماري الاستيطاني مستمدة من تاريخ بريطانيا وفرنسا. بل إنّ إسرائيل قد ورثت إرث الإدارة البريطانية للانتداب على فلسطين كما هو. ولذلك لا يمكن توصيف ما يحدث بأنه خيانة للقيم، بل استمرارية تاريخية. ومع ذلك، فإن كتابة بارتوف لهذه الأمور بالغة الأهمية. إذ يُسجّل على الأقل في الوثائق الدولية أنّ ما يجري “يتطابق مع التعريف القانوني للإبادة الجماعية”. ولهذا السبب بالذات، هدد ديفيد كاميرون رئيس المحكمة الجنائية الدولية، لأنه كان يعلم ذلك. إنّ كُلًا من بريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وهولندا، والولايات المتحدة لا يمكنها أن تُبرّئ نفسها من آثام الجرائم التي ترتكبها إسرائيل.
ولا شك أنّ الاكتفاء بعدم النسيان يُعدّ موقفًا سلبيًا. إذ لا بد من تبنّي موقف فاعل تجاه المشروع الاستيطاني التوسّعي الإسرائيلي. صحيح أنّ الأساطير التي صيغت حول إسرائيل تنهار تباعًا، ولكنّ من الواجب فضح كلّ “الأعمال القذرة” التي ارتكبها الغرب الأنجلو ساكسوني وإسرائيل أمام العالم. ولحسن الحظ، بدأت تصدر مؤخرًا العديد من المؤلفات المهمة في هذا الصدد. فقد بات عدد الكتب التي تتناول مشروع التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في ازديادٍ ملحوظ، وتعمل هذه المؤلفات على توثيق عدالة القضية الفلسطينية ومقاومة الفلسطينيين التي أذهلت البشرية جمعاء، وذلك ضمن سياق موضوعي متماسك. ومن المؤكّد أن أهمية هذه المؤلفات ستتجلّى على نحو أعمق في السنوات القادمة.