اخبار تركيا
تناول تقرير للكاتب والمفكر التركي سلجوق تورك يلماز، تحليلًا نقديًا واسعًا لدور الغرب—ولا سيما بريطانيا—في تأسيس الصهيونية وصناعة المشروع الاستعماري الذي أدى إلى المأساة الفلسطينية الحالية، مع إبراز الانقسام الداخلي المتنامي داخل المجتمع اليهودي بين مؤيدين لإسرائيل ومنتقدين جذريين لها بعد أحداث 7 أكتوبر.
يسلّط تورك يلماز الضوء على استمرار النفوذ الفكري للنخب البريطانية ورفضها مساءلة إرثها الاستعماري، مقابل حضور شعبي أكبر في الاحتجاجات ضد جرائم الحرب. ويؤكد أن فهم جذور الإبادة يتطلب العودة إلى التاريخ الإمبريالي الغربي، وأن النقاش في تركيا ما زال سطحيًا مقارنة بحجم التحولات التاريخية الراهنة.
وفيما يلي نص التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق التركية:
يمكننا إلى حد ما متابعة نوع الانقسام الذي أحدثته جريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل داخل المجتمع اليهودي. فالغالبية العظمى من العالم اليهودي ما زالت متمسكة بإيمانها بإسرائيل وبالصهيونية، التي هي أيديولوجية الإبادة الجماعية. وفي المقابل، فإن بعضهم، رغم انتمائهم للعالم اليهودي، لا يكتفون بعدم الإيمان بها، بل ينتقدونها بشدة. وهذه مسألة بالغة الأهمية. وليس من السهل على شخص يراقب هذه الأحداث من الخارج مثلي أن يتنبأ بالتطورات التي قد تنجم عن هذا التناقض الداخلي. وبعد 7 أكتوبر 2023، بدأت آراء اليهود الذين يبرزون بانتقاداتهم الشديدة لإسرائيل والصهيونية فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة على الأراضي التاريخية لفلسطين تنتشر أكثر في تركيا. وأود أن أذكر أنني استفدت شخصيًا من آراء هؤلاء الكتاب.
وفي بريطانيا، التي أسست إسرائيل منذ البداية كمشروع استعماري وبنتها كـ “دولة يهودية” في ظل نظام الانتداب الذي تشكل بعد عام 1917، لا تزال الغالبية العظمى من الناس ة بإسرائيل والصهيونية ارتباطا وثيقا. ولكن ثمة فارق بالغ الأهمية يجب توضيحه: عندما نشير إلى “البريطانيين” في هذا السياق، فإننا نقصد في الغالب الطبقات النخبوية. ومن بين هؤلاء النخبة هناك قلة محدودة جدًا ممن برزوا بانتقادات جذرية لإسرائيل والصهيونية. ويبدو أن أولئك الذين لا ينتمون إلى هذه النخبة يشاركون بنسب أعلى في المظاهرات الاحتجاجية على جرائم الحرب الإسرائيلية. ونتيجة لذلك، تبقى المناقشات المتعلقة بتورط بريطانيا في جرائم الحرب في مرتبة ثانوية. مع العلم أن إسرائيل والصهيونية هما نتاج مباشر لبريطانيا، وبريطانيا هي المسؤول الأول عن المعاناة الكبيرة التي يعيشها الفلسطينيون اليوم.
لقد حاولتُ في مقالاتي السابقة تناول علاقة بريطانيا بالصهيونية وإسرائيل من زوايا مختلفة. وفي هذا السياق، طُرحت مواضيع مهمة جدًا كـ “الصهيونية المسيحية”. وللأسف، لم تحظَ هذه القضية بالاهتمام الذي تستحقه. مع أن المواضيع الفرعية كالمدارس التي افتتحها الصهاينة المسيحيون في الأراضي العثمانية تشير أيضًا إلى أبعاد المسألة المتعلقة بنا. ورغم ذلك، فإن غياب النقاش العميق يمثل نقصًا جسيمًا. وينبغي أيضًا تقييم الأدبيات الاستشراقية ضمن الإطار نفسه. فإذا أصبح الولاء للصهيونية وإسرائيل موضع جدل في بريطانيا، يُمكننا توقع حدوث بعض التغيرات، لكن يبدو أن الطبقات النخبوية في بريطانيا لا ترغب في مساءلة ولائها للصهيونية وإسرائيل. كما أن عزيمة هذه الطبقات تؤثر على المشهد الفكري، مما يذكرنا بأن أحد أهم الأماكن التي يجب مراقبتها عندما يتعلق الأمر بالصهيونية وإسرائيل هو بريطانيا.
وكما ذكرنا سابقاً، فإن تجاهل حقيقة أن الأنجلوساكسون يتربعون على قمة الهرم للهيمنة العالمية يؤدي إلى أخطاء فادحة. لقد بدأت عمليات الاستيلاء، والتهجير، والإبادة الجماعية في الأراضي الفلسطينية التاريخية تحت نظام الانتداب البريطاني. وللاطلاع بشكل أفضل على المشاكل التي أحدثها نظام الانتداب البريطاني، يمكنكم مشاهدة فيلم “فلسطين 36” الذي عُرض مؤخراً. إن دعم بريطانيا للجماعات الإرهابية اليهودية الصهيونية يعود إلى قرن مضى، وهذا ليس مصادفة. فالأفكار التي تزعم أن اليهود سيطروا على بريطانيا ويحكمونها، كما يظن البعض، تُخفي دور بريطانيا الحقيقي في القضية الفلسطينية.
ويجب أن نؤكد أن ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة إلى جانب بريطانيا لعبت أدواراً محورية في الإبادة الجماعية الحالية. وهذه الدول أيضا لم تشارك في الإبادة الجماعية في الأراضي الفلسطينية التاريخية بسبب خضوعها لليهود. ما يجب طرحه للنقاش هو التاريخ الاستعماري لدول أوروبا الغربية الذي يمتد لخمسمئة عام. وحتى العناوين الكبرى مثل عصر التنوير والثورة الفرنسية يجب أن نُقيّمها في هذا السياق نفسه. وستكون هذه خطوة مهمة نحو التقدم إلى الأمام بالنسبة لنا أيضاً.
أحيانًا نعبّر عن ذلك بصراحة، وأحيانًا بشكل ضمني. أعتقد أننا محتجزون داخل إطار نقاش سطحي جداً في تركيا. فقد اعتاد شعب هذا البلد لسنوات على سب تاريخه لأسباب مختلفة، فبعضهم يشتم عبد الحميد، والبعض يشتم أنور باشا، وآخرون يشتمون شخصيات تاريخية أخرى. وتتغير الأجندة فجأة. ولكننا نعيش بفترة نشهد فيها أحداثًا غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية. ولكي نتمكن من رؤية المشاكل من جذورها علينا أن ننظر إلى ما هو أبعد من ذلك.
