بين رفع الفائدة وبيع الاحتياطي.. خبير تركي يتحدث عن تناقضات بنيوية

اخبار تركيا
قدم الخبير التركي يوسف دينيتش نقدًا للسياسات الاقتصادية الأخيرة في تركيا، مسلطًا الضوء على “التناقضات” بين قرارات رفع سعر الفائدة وبيع الاحتياطي النقدي، مما يعكس “تخبطًا” في إدارة التوازن بين حماية سعر الصرف، ودعم الاحتياطي، ومساندة الشركات والمواطنين.
كما انتقد الكاتب في تقرير بصحيفة يني شفق ما أسماه “الجنون الأرثوذكسي” في السياسات النقدية، مشيرًا إلى أن الإجراءات المتخذة تفتقر إلى منطق اقتصادي واضح، وتخدم مصالح مضاربين ولوبيات مالية أكثر من خدمتها للاقتصاد الحقيقي.
وفيما يلي نص التقرير:
يبدو أن خبراء الاقتصاد في تركيا يبالغون في تقدير تشدد مواقفهم ويظنون أنهم يتّسمون بالصرامة النقدية. وأعتقد أنني لم أعد بحاجة لتكرار أنه لا ينبغي لأحد أن يعتبر نفسه أكثر تشددًا من البنك المركزي اليوم.
فعندما رفع البنك المركزي سعر الفائدة، انهالت التعليقات المعتادة بأن “البنك المركزي أثبت جدارته”. ولكن ما يسمونه جدارة هو في الواقع تشدد، بينما الجدارة مفهوم مختلف تمامًا. واللافت أن بنك غولدمان ساكس، الذي توقع زيادة قدرها 350 نقطة أساس، لم يصفها بالجدارة، بل اعتبرها دليلًا على “الحسم والكفاءة”.
وأتساءل كم مرة ينبغي للبنك المركزي أن يثبت تشدّده، أو حسمه، أو كفاءته حتى يقتنع النظام؟ يبدو أن نوبة الجنون الأرثوذكسية في نموذج الاقتصاد التركي لم تنتهِ بعد.
لقد رأيت حتى من قال: “قد تتفاعل البورصة بشكل إيجابي مع قرار رفع الفائدة”، في معرض تعليقه على توقعاته شأن قرار سعر الفائدة. وإذا كانت هناك بورصة يمكن أن تتفاعل إيجابيًا مع رفع الفائدة في ظل المعطيات الحالية، فإنه يجب إغلاقها، بل وعدم فتحها مجددا. لأن مثل هذه البورصة قد فقدت كل عقلانية اقتصادية.
ما يعني أن ازدياد التشدد النقدي يقابله فقدان المنطق.
الخطأ يجر أخطاءً أخرى. لقد استهلّ البنك المركزي العام بقرار خاطئ، فخفض عدد اجتماعاته إلى ثمانية في وقت يمر فيه العالم بظروف استثنائية. وقد خلق ذلك انطباعا بأن الأشهر التي مرت دون قرارات مؤثرة أثرت على قراراته.
وبالطبع كان ميزان البنك المالي قد بدأ بالفعل يتجه نحو الدولرة، أي دفع الشركات إلى الاقتراض بعملات أجنبية.
وفي غضون ذلك حدث أمر إيجابي: ازداد الاحتياطي. غير أن هذا الارتفاع لم يكن نتيجة تدفق رؤوس أموال أجنبية، إذ لم تُسهم هذه التدفقات بأكثر من 5 إلى 10 مليارات دولار.
بل إن زيادة الاحتياطي جاءت بفعل اتجاه المواطنين محليًا إلى صرف جزء من مدخراتهم بالعملات الأجنبية مؤقتًا، وإعادة تقييم الاحتياطيات، وخاصة الذهب.
ويجب أن نُدرك أولًا أن أي نهج اقتصادي أرثوذكسي لا يهدف إلى تكديس الذهب. وإن زادت احتياطات الذهب في ظل هذا النهج، فإن السبب يعود ـ في الأرجح ـ إلى القوانين التي تنظم حصة الدولة من المناجم.
ويجب أن نعلم أيضًا أن في تركيا ليس هناك فقط لوبي الفائدة”، بل “لوبي سعر الصرف” كذلك. وأنا لا أنتمي إلى أيٍّ من هذين اللوبيين أو أي لوبيات أخرى، لكنني أرى أن سعر صرف الدولار مقابل ليرة41 كان أكثر منطقية من 38.
ولا أعلم لماذا تم تخفيض سعر الصرف من 41 إلى 38 رغم بلوغ هذا المستوى. فحتى لو استقر عند 41، ما كان لأحد أن يلوم الإدارة الاقتصادية، لأن ارتفاعه لم يكن اقتصاديا.
والتفسير الأكثر منطقية قد يكون مراعاة سلامة الشركات التي لديها ديون بالعملة الأجنبية. أما التفسير الأكثر بغضًا فقد يكون عدم إغضاب المضاربين على فروق الأسعار. لا يوجد تفسير آخر، فحتى لو تدهورت توقعات التضخم، فإنها لن تتجاوز في أسوأ الأحوال نسبة 35%، وهو ما يتفق عليه الجميع. وقد قامت المؤسسات التي دعمت الرفع الأخير بمقدار 350 نقطة أساس، مثل جي بي مورغان، غولدمان ساكس، ومورغان ستانلي، بتحديث توقعاتها لسعر الفائدة حتى نهاية العام وفقًا لتضخم بنسبة 35%.
إذًا، في ظل هذه الظروف، لماذا بيعت الاحتياطيات؟ وبعبارة أخرى، لماذا تم التفريط بعوائد الذهب، وهو أكبر ضمانة للاقتصاد في مرحلة حرجة يمر بها العالم؟ ألم يقل ترامب ذات مرة: “القاعدة الذهبية هي أن من يملك الذهب يضع القواعد”؟
في الحقيقة، لا يوجد تفسير اقتصادي لهذه الخطوات المتناقضة.
إذا كان رفع سعر الفائدة حتميًا، فلماذا بيع الاحتياطي؟ وإذا بيع الاحتياطي، فلماذا رُفعت الفائدة؟
والجدير بالذكر أن بيع الاحتياطي قد خلق لدى الأسواق توقعًا عامًّا بأن اجتماع لجنة السياسة النقدية سيتسم بالتفاؤل حيال استمرار دورة التخفيض، أو على الأقل بأن الفائدة لن تتغير. لذلك شكّل القرار مفاجأة.
لكن المشكلة لا تكمن في عنصر المفاجأة ذاته، رغم أنني طالما قلت إن السياسات المباغتة تُشكّل بحد ذاتها معضلة؛ إلا أن هذه المرة، لا تكمن الأزمة في المفاجأة، بل في التناقض الصارخ بين الخطوات المتسلسلة والمتبعة.
هل الهدف حماية سعر الصرف؟ أم سعر الفائدة؟ أم الحفاظ على الاحتياطي؟ أم حماية الأسر؟ أم إنقاذ الشركات الصغيرة والمتوسطة؟ أم مساعدة من يرزحون تحت عبء الديون بالعملات الأجنبية؟
لقد تحوّل هذا الوضع إلى حزمة من التناقضات المصطنعة، فلم تكن هذه حزمة من التناقضات موجودة بكل عناصرها،
من الذي تتم حمايته الآن، الشعب أم المصنعون أم القطاع المالي، الذي سيُحمل في النهاية تبعات كل هذه القرارات؟