د. علي محمد الصلابي خاص اخبار تركيا

لقد اهتم القرآن الكريم بنزعة التربية الاجتماعية في الإنسان ووضع لها عدة دعائم.

الدعامة الأولى: تنمية حب الإنسان لأخيه الإنسان المؤمن:

وتلك القاعدة التي ترتكز عليها الحاسة الاجتماعية في البشر عموماً، ويتضح هذا من سيرة النبي ﷺ عندما وصل إلى المدينة فآخى بين المهاجرين والأنصار في الله، وأصبحوا إخوة، وسجل ذلك في وثيقة مكتوبة، نقشت في قلب كل مؤمن، بل صاروا يتوارثون بمقتضى هذه الأخوة، وظل هذا التوارث سارياً حتى نزل قول الله تبارك وتعالى: {وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75]. فألغى التوارث، وبقيت الأخوة في الله على ما كانت عليه، من قوة ووثاقة، ولا تزال بين الواعين من المؤمنين حتى اليوم، ولقد تأكدت الأخوة بين المؤمنين بقوله سبحانه {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

ولقد كان من مقتضى فقه الأنصار للأخوة في الله، أن حملوا أعباء إخوانهم المهاجرين، ومدح الله سبحانه ذلك الفقه والعمل، وأثنى عليه بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ تبوؤوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
الدعامة الثانية: استجابة الإسلام لحاجات المجتمع كاستجابته لحاجات الفرد.
وقد عمل الإسلام على تحقيق حاجات المجتمع في إطار ما أحل الله، وبحيث لا يضر بأحد من الناس. ومن حاجات المجتمع:
1 التعاون والتكافل:
لقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتعاون وأوجبه عليهم، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
2 التناصر والتواصي بالحق والصبر:
قال تعالى: {وَالْعَصْرِ ` إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ` إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 3] والتواصي بالحق يدفع عن الناس كل مصيبة، ويقضي على المنكرات والآثام التي في المجتمع ويجعلها تنحسر، والتواصي بالصبر يجعل العدالة تسري في المجتمع ويرتفع الظلم، وتسوده المودة وتزول العجلة. (فقه النصر والتمكين، د. علي الصلابي، ص433).
3 الحث على التراحم بين أفراد المجتمع:
قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وأثنى سبحانه وتعالى على المؤمنين المتراحمين في قوله سبحانه: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ` أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 17، 18].
وهذه الآيات لم تحصر حاجات المجتمع، بل حثته بمفهومها العام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى جلب المصالح ودفع المفاسد، والجهاد في سبيل الله وتجهيز الغزاة، وعلى تأمين العيش الكريم لكل أفراده.
الدعامة الثالثة: تحديد الصفات التي يجب أن تسود المجتمع:
قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ` وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ` وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ` وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ` وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ` وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ` إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ` وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 36 43].
لقد ذكرت الآيات الكريمة الصفات الرفيعة والتي إن سادت في المجتمع أصبح سعيداً راشداً.
فقد أشارت إلى الإيمان بالله، والتوكل عليه سبحانه، واجتناب كل إثم وفاحشة والصفح والتسامح، والاستجابة لكل ما أمر الله به، وإقامة الصلاة، وممارسة الشورى في كل ما أمر يعنيهم، والإنفاق في سبيل الله ووجوه الخير، والانتصاف من كل عدو للإسلام والمسلمين، وهو مقتضى العدل، والعفو والتسامح مع القدرة على الانتصاف، وهو مقتضى الإحسان، والانتصار بعد الظلم، والصبر على المظالم، والتجاوز عن الظالم لعل الله يهديه بشرط ألا يكون ذلك مؤدياً إلى الفساد والشر، والدعوة للمعرفة، وهكذا يكون المجتمع الإسلامي (فقه الدعوة إلى الله، علي محمود، 1/507 509).
الدعامة الرابعة: تأكيد خيرية هذا المجتمع:
الذي انصهر في تعاليم الإسلام ووضعه في مقدمة المجتمعات لقيادته كلها إلى الإيمان والمنهج الرباني، والحق والخير والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110].
وهذه خيرية تقوم على الإيمان والعمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعيدة كل البعد عن الخيرية العرقية والجنسية والقومية، كما زعمت أمة اليهود، وانخدعت أمة الألمان بالعرقية منذ خمسة عقود فكفلتها وكلفت العالم كله حرباً دامية مات فيها ملايين من البشر.
هذه الدعائم التي يجب أن تسود في المجتمع، وينبغي أن يقوم برنامج هذه المرحلة عليها، وأن يوزع على كل المشرفين في مرحلة الإعداد في القرى والأرياف والحواضر والبوادي والمدن والبلديات، ولا شك أن مرحلة الإعداد والتربية من أهم المراحل التي تبنى عليها الأهداف في الوصول إلى التمكين وسيادة شرع الله على العالمين وإقامة دولة الإيمان والتوحيد. (فقه النصر والتمكين، د. علي الصلابي، مرجع سابق، ص433).

المراجع:

* تبصرة المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، د. علي محمد محمد الصلابي، مكتبة الصحابة الإمارات الشارقة، ط1، 1422ه 2001م.
* فقه الدعوة إلى الله، د. علي عبد الحليم محمود، دار الوفاء، مصر، طبعة 1410هـ، 1990م.

عن الكاتب


شاركها.