اخبار تركيا
سلط مقال للدبلوماسي التركي، عمر أونهون، الضوء على التحديات التي تنتظر أنقرة في جمهورية شمال قبرص التركية بعد فوز مرشح المعارضة بالانتخابات الرئاسية، على حساب الرئيس الحالي.
وقال أونهون، وهو آخر سفير تركي في دمشق قبل سقوط نظام البعث، إن الانتخابات التي شهدتها قبرص التركية، أمس الأحد، تحمل أهمية خاصة لمستقبل الجمهورية، وعلاقاتها مع تركيا، وللوضع الجيوسياسي في شرق البحر الأبيض المتوسط. فلم يقتصر تصويت القبارصة الأتراك على اختيار رئيس جديد، بل شمل أيضا تحديد توجههم السياسي والشخص المفاوض الذي سيتولى تمثيلهم في المحادثات الدبلوماسية المقبلة لحل القضية القبرصية.
وأضاف في مقال له على موقع “المجلة” أن الانتخابات الرئاسية هذه كانت بمثابة استفتاء حاسم بين خيارين متباينين داخل المجتمع التركي القبرصي، بين من يدعم حل الدولتين ومن يتمسك بالحل الفيدرالي.
وفيما يلي تتمة المقال:
إذ كان الرئيس المنتهية ولايته إرسين تاتار قد دافع عن خيار “حل الدولتين”، مؤكدا أن التوصل إلى حل عادل لا يكون ممكنا إلا عبر قيام دولتين مستقلتين تتمتعان بالمساواة في السيادة وتسعيان لاحقا إلى اعتراف دولي.
في المقابل، دعا توفان إرهورمان إلى إقامة شراكة بينالقبارصة الأتراك واليونانيينضمن إطار “جمهورية قبرصية مشتركة”، تقوم على دولتين مكوّنتين وعلى أساس المساواة السياسية بين المجتمعين.
وقال الرئيس المنتخب إرهورمان: “أؤكد أنني سأتعامل مع كامل المسؤوليات المتعلقة بالسياسة الخارجية بالتشاور الوثيق مع تركيا، ولن أوافق على أي خطوة تتجاوز ما يُتفق عليه في إطار هذا التشاور”.
جاءت هذه التصريحات على خلاف ما كان القبارصة اليونانيون يأملون سماعه من إرهورمان، الذي أشادت به الصحافة اليونانية باعتباره “مرشحا مؤيدا لإعادة التوحيد”، و”معتدلا هزم مرشحا متشددا في تصويت محوري قد يسهم في إحياء المحادثات المتوقفة التي ترعاها الأمم المتحدة لإعادة توحيد قبرص”.
ورغم الدعم القوي الذي حظي به ترشيح إرسين تاتار من قِبل تركيا خلال حملته الانتخابية، فقد بادر الرئيس رجب طيب أردوغان، إلى جانب عدد من كبار المسؤولين، إلى تهنئة إرهورمان بعد إعلان النتائج، مشددين على استمرار دعم أنقرة للقبارصة الأتراك.
إلا أن المواقف بشأن هذه المسألة بدت متباينة بين أردوغان وحليفه الأقرب، دولت بهجلي، زعيم “حزب الحركة القومية”. فقد دعا بهجلي، فور إعلان نتائج الانتخابات، إلى أن يعلن البرلمان القبرصي التركي بطلان النتائج، حيث لم يشارك في عملية التصويت سوى نصف الناخبين فقط، كما طالب بإصدار قرار يقضي بانضمام الجمهورية إلى تركيا.
ومن المتوقع أن تكون الخطوة التالية زيارة الرئيس المنتخب للعاصمة أنقرة للقاء الرئيس أردوغان. ويبقى السؤال المطروح الآن ما إذا كان الطرفان سينجحان في إيجاد أرضية مشتركة، في ظل استمرار تركيا في دعم خيار حل الدولتين.
ومن المرجح أن تتعامل أنقرة مع الواقع الجديد بحكمة، فتواصل دعمها للقبارصة الأتراك مع احترام إرادة الناخبين، بما يضمن في الوقت ذاته الحفاظ على أمنها وأمن “جمهورية شمال قبرص التركية”، إذ إن انتهاج مسار مغاير قد لا يخدم المصالح التركية.
وقد تشهد الأسابيع المقبلة انفراجات جديدة بين القبارصة الأتراك واليونانيين، سواء على المستوى الثنائي أو ضمن إطار الأمم المتحدة.
وقد تعدّدت العوامل التي أسهمت في فوز زعيم المعارضة إرهورمان بفارق كبير في الأصوات. ومن أبرزها: الازدهار الذي ينعم به القبارصة اليونانيون نتيجة اعتراف المجتمع الدولي بهم واستفادتهم من الدعم الأوروبي، في مقابل عجز القيادة القبرصية التركية السابقة عن اتخاذ خطوات جدية لحل القضية القبرصية، وفشلها في تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، إضافة إلى سلسلة من الفضائح التي طالت شمال قبرص.
ومع ذلك، فإن التوصل إلى حل نهائي للقضية القبرصية لن يكون سهلا، مهما كانت التوجهات التي ستتبناها القيادة القبرصية التركية المقبلة، إذ لا يزال الطرفان يحملان في ذاكرتهما إرثا ثقيلا من العنف الطائفي.
في عام 1960، أسس القبارصة الأتراك واليونانيون “جمهورية قبرص” بموجب اتفاقية ضمنت تنفيذها كل من تركيا واليونان والمملكة المتحدة. غير أن هذا الترتيب لم يصمد طويلا، إذ شنت قوات قبرصية يونانية، نظامية وغير نظامية، هجمات مسلّحة على القبارصة الأتراك، في إطار أيديولوجيا قومية متطرفة تُعرف باسم “إينوسيس،” كانت تهدف إلى فرض السيطرة الكاملة على الجزيرة وضمها إلى اليونان، ما أدى في نهاية المطاف إلى التدخل العسكري التركي عام 1974.
ومنذ ذلك الحين، استقر القبارصة اليونانيون في الجزء الجنوبي من الجزيرة، في حين عاش القبارصة الأتراك في الشمال، حيث أعلنوا قيام “جمهورية شمال قبرص التركية”.
وخاض الجانب التركي مفاوضات طويلة مع الجانب اليوناني بهدف إقامة جمهورية مشتركة تقوم على المساواة السياسية بين المجتمعين، إلا أن هذه المحادثات لم تفضِ إلى أي نتيجة.
وطُرحت “خطة أنان”، التي قدّمها الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي أنان، بهدف توحيد القبارصة الأتراك واليونانيين في دولة ثنائية المناطق، وعُرضت على الاستفتاء في شطري الجزيرة في 24 أبريل/نيسان 2004. وقد صوّت 65 في المئة من القبارصة الأتراك لصالح الخطة، في حين رفضها 75 في المئة من القبارصة اليونانيين، ما أدى إلى إسقاطها.
إذ يبلغ عدد القبارصة اليونانيين نحو مليون نسمة، وهم يرفضون الاعتراف بالمساواة السياسية مع نحو 470 ألف قبرصي تركي، ينظرون إليهم باعتبارهم مجرد أقلية. كما يعارضون استمرار تركيا كدولة ضامنة، وهو اعتراض يواجه رفضا حازما من الجانب التركي.
وفي وقت لاحق، فشلت أيضا محادثات السلام التي أُجريت عام 2017 في قرية كران مونتانا الجبلية بسويسرا.
وعلى الرغم من رفض خطة أنان، ومن كون قوانين الاتحاد الأوروبي لا تسمح بانضمام دول ذات نزاعات حدودية غير محلولة، انضمت قبرص إلى الاتحاد الأوروبي عام 2002 بتمثيل حصري من قبل الجانب اليوناني، في خطوة أُقصي فيها القبارصة الأتراك تماما. إلا أن عددا من السياسيين والخبراء الأوروبيين أقروا فيما بعد بأن تلك الخطوة كانت خاطئة.
ومنذ ذلك الحين، تستفيد الإدارة القبرصية اليونانية من أموال الاتحاد الأوروبي بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للجزيرة، كما تعرقل انضمام تركيا إلى الاتحاد وتستخدم عضويتها لخدمة أجنداتها السياسية الخاصة.
ومؤخرا، كثّف القبارصة اليونانيون جهودهم في مجال التسلّح، في ظل رفع الولايات المتحدة الحظر المفروض عليهم، الأمر الذي منحهم تفوقا عسكريا ملحوظا.
وفي سياق موازٍ، دخلت إسرائيل، بقيادة حكومة بنيامين نتنياهو التي تمرّ بعلاقات متوترة مع تركيا، في شراكة أمنية مع قبرص، ويُقال إنها تزوّدها بمعدات عسكرية متنوعة، تشمل أنظمة دفاع جوي.
وفي خضم هذا التصعيد، باتت احتياطات الهيدروكربون قبالة السواحل القبرصية تمثل بؤرة توتر إضافية في المنطقة.
إذ يدّعي الجانب اليوناني أن القبارصة الأتراك لا يملكون أي حق في موارد الطاقة المكتشفة، ويسعى إلى زيادة الضغط على تركيا من خلال دعوة شركات دولية كبرى، مثل “شيفرون”، للمشاركة في أعمال التنقيب والحفر.
غير أن تركيا لا تلتزم الصمت، بل تبذل جهودا متواصلة لضمان بقاء القبارصة الأتراك في بيئة آمنة ومستقرة، ويشكّل وجودها العسكري في شمال الجزيرة إحدى أبرز ركائز هذا الدعم. فرغم امتلاك “جمهورية شمال قبرص التركية” لجيش خاص بها، فإن القوة الفعلية تستند إلى الحضور العسكري التركي والبنية التحتية التي وفّرتها أنقرة في شمال الجزيرة.
ويُعد القرب الجغرافي لشمال قبرص من تركيا، إلى جانب قدرة الطائرات الحربية التركية على الوصول إلى الأجواء القبرصية خلال دقائق، عاملا إضافيا يعزز الضمانات الأمنية للقبارصة الأتراك.
وتعتمد “جمهورية شمال قبرص التركية” في مواردها الأساسية على عائدات السياحة والجامعات، بالإضافة إلى الكازينوهات، بينما تأتي بقية مصادر الدخل من الدعم التركي المباشر.
ورغم أن أي دولة لم تستجب حتى الآن لدعوات الجانب التركي للاعتراف الدولي بـ”جمهورية شمال قبرص التركية”، فإن لديها مكاتب تمثيلية في أكثر من 20 دولة. ولا يستطيع المجتمع الدولي أو القبارصة اليونانيون إنكار حقيقة وجود نحو نصف مليون قبرصي تركي، يملكون جميع المقومات التي تؤهلهم لشراكة سياسية متكافئة في ملكية الجزيرة.