اخبار تركيا

تركيا.. ما الذي يدفع الشباب إلى التردد على مقاهي المساجد؟

يوسف دينتش يني شفق

قبل ظهور المقاهي الحديثة، كانت المقاهي التقليدية، ومحال الحلويات، ومقاهي الشاي هي الأماكن الأكثر شيوعًا. ومع أن المقاهي الحديثة جمعت بين هذه المفاهيم الثلاثة في نموذج واحد، إلا أن تسويقها بأسعار مرتفعة كمفهوم مبتكر أتاح استمرار وجود المقاهي التقليدية ومحال الحلويات ومقاهي الشاي.

أود أن أؤكد هنا على نقطة مهمة؛ أحيانًا يكون الابتكار في ذات الفكرة نفسها، وعندما يتم ابتكار فكرة جديدة، يجري تسويقها بقوة حتى النهاية. وأقصد هنا تحديدًا قطاع الخدمات.

ولكن عندما ينضب هذا الزخم التسويقي، ينبغي الانتقال إلى تسويق المنتجات ذاتها داخل هذا النشاط لضمان استمراريته. سأقدم أمثلة ة بهذا السياق قبل التطرق إلى مقاهي الشاي التابعة للمساجد. لكن قبل ذلك، أرى أنه من المهم الإشارة إلى أن قطاع التمويل التشاركي قد حان الوقت له للانتقال من تسويق “وجوده” إلى تسويق منتجاته. دعونا نواصل.

تشهد المقاهي التقليدية تراجعًا في شعبيتها، حيث أصبح روادها من كبار السن فوق الخمسين عامًا. ورغم محاولة كمال كليجدار أوغلو أثناء جائحة كورونا، تقديم نفسه بلمسة فكاهية كوجه إعلاني لدعمها، إلا أن تلك المحاولات لم تكن كافية. والسبب في ذلك أن المقاهي التقليدية لم تستطع تقديم منتج جديد؛ المشروبات المبتكرة مثل الصودا بالفستق أو اللبن بالصودا لم تحقق النجاح المنشود. وأصبحت المقاهي تعتمد على الملل وإدمان الألعاب، وهو ما أضعف قدرتها على الابتكار بسبب الراحة التي وفرتها له هذه الركائز. والوضع مشابه إلى حد كبير بالنسبة للتمويل التشاركي.

لقد تمكنت محلات الحلويات التي تفتقر إلى مناطق الراحة التقليدية، من النجاة والتكيف من خلال مجموعة من الابتكارات التي ساعدتها على إيجاد موطئ قدم جديد لها في السوق. ومن بين هذه الابتكارات، ظهرت منتجات مثل البقلاوة الباردة والكنافة بالحليب، التي ساهمت في جذب قاعدة عملاء جديدة. غير أن المنتج الذي وفر للمحلات فرصة استثنائية للبقاء هو كيكة “تري ليتشي”. لا أعرف بالضبط من الذي ابتكر هذا المنتج أو جلبه إلى السوق ولكنه أصبح أساسًا لصناعة ضخمة. ولو سُئلت عن أهم ثلاثة أطعمة ولّدت أكبر عوائد اقتصادية في تركيا، فسأذكر الشاورما، واللحم بعجين، والكفتة النيئة، وأضيف إليها كيكة “تري ليتشي” في المرتبة الرابعة.

من ناحية أخرى، تمثل الكافيهات والمخابز والمقاهي التقليدية ومقاهي الشاي أنواعًا متقاربة من الأعمال التجارية، تتباين فيما بينها وفقًا لنموذج التسعير. في قاع هذا الهرم، نجد مقاهي الشاي، التي تركز على تقديم الخدمات بأسعار معقولة، معتمدة على حجم المبيعات. هذه المقاهي تخدم عادةً شريحة، معينة مثل العاملين المناطق الصناعية والأسواق العمالَ وزوارهم، بينما تلبي مقاهي الشاي التابعة للمساجد احتياجات المصلين، وعادةً ما يرتادها كبار السن.

ولكن في الآونة الأخيرة، لاحظت زيادة في إقبال الشباب على مقاهي الشاي الموجودة في ساحات المساجد أو بالقرب منها. وقد آثرت هذا الموضوع في النقاش، لأنني أعتقد أن وراء هذا الإقبال علاقة اقتصادية. ويبدو أن ارتفاع الأسعار ومستويات الدخل غير الكافية لعبت دورًا في هذا السياق.

ولكن حضور الشباب المنتظم إلى مقاهي الشاي المحيطة بالمساجد لا يمكن اختزاله فقط في مسألة اقتصادية. بل أرى فيه نوعًا من التعبير عن رفضهم للأسعار الجائرة وللنظام الرأسمالي. وألاحظ في هذا التوجه طابعًا مميزًا يعكس شخصية الشباب اليوم. وكما أكرر دائمًا، الشباب يركزون على القيمة مقابل السعر. وأجد في ذلك ميلاً لإفشال ألاعيب الرأسمالية التي وُلدوا في كنفها، حتى لو لم يتحقق ذلك بعد.

فالشباب، على عكس الأجيال السابقة من مواليد السبعينيات والثمانينيات، لا يسعون لشراء المكانة الاجتماعية بالمال. أو بعبارة أخرى يهتمون بالوظيفة والغاية أكثر من المظهر أو الصورة.

والمساجد، بما تمثله من أماكن جميلة وهادئة ومفيدة وبيئة توفر الشاي بأسعار معقولة، تُعتبر خيارًا مفضلًا مقارنة بالأماكن ذات الزخارف الباهظة التي تفتقر إلى الجوهر.

والآن، أعود للسؤال الأساسي: لماذا آثرت مناقشة هذه القضايا؟ سأنتقل إلى الجانب الفكري من الموضوع.

يزداد الطلب على الاستشارات في عالمنا اليوم، إلا أن العثور على مرشد موثوق به لتوجيه القرارات أصبح أمراً بالغ الصعوبة. لم يعد الإنسان يرغب في قول “ياليتني”، لأن العالم اليوم لا يمنح الفرص لتصحيح الأخطاء. بل يزرع فينا الشعور الدائم بأننا نفوت فرصاً ثمينة. يمكنني القول إن الحياة هي مجموع الفرص الضائعة، وليس هذا بعيدًا عن واقع الحالي.

ولكن تبقى إضاعة الفرص أفضل من ارتكاب الأخطاء.

إن سرعة الحياة تفرض على الإنسان المضي قدماً دون تعثر أو سقوط تماماً مثل عصابة من الضباع المنظمة تجعله يدفع ثمنًا فادحًا في أول خطأ يرتكبه، ولذلك يتعين على المرء أن يخطو كل خطوة بشكل صحيح تمامًا، فالتوجيهات الخاطئة أو غير الكافية في هذا العالم الرأسمالي قد تترتب عليها تكاليف باهظة، حيث أصبحت وفرة الخيارات نوعاً من التعذيب. والخطأ، في سياق الرأسمالية يحرم الإنسان في المستقبل من أمرين نادرين: الإيمان والملكية. فالإنسان يمتلك حقًا في ارتكاب الأخطاء. وإجباره على العيش بلا أخطاء أو منعه من العودة عنها يتعارض مع فطرته ويجهده بالطبع. وكما هو معروف، الضغط يولد الانفجار. (المقصود بالإيمان والملكية هنا، الدنيا والآخرة.)

كلما زادت البساطة قلت احتمالية الخطأ، وهذه الفترة الحالية التي تشهد كثرة الخيارات هي حالة استثنائية، وما زالت حديثة العهد ومن المحتمل أن تتحول في يوم من الأيام إلى جنون وتنتهي. وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فسنفقد إيماننا وممتلكاتنا. ستصبح البساطة والوضوح أكثر أهمية لأنها تقلل من احتمالية حدوث أخطاء. لكن الرأسمالية لا تهتم بذلك، فهي تفضل الاحتكار والسيطرة، والبساطة لا تساعدها على ذلك.

هذه هي المخاطر، لكنني لست متشائما، فالتصدي للرأسمالية خيار وارد وممكن التنفيذ.

أما الدافع الثاني الذي يدفعني إلى مناقشة هذا الموضوع، فيتعلق بالبعد الاقتصادي لهذه الأفكار، فلندع الجانب الفكري الآن ونتحدث عن مدى تأثير المعلومات على الوحدات الاقتصادية.

إن فهم التحولات الجارية واستيعاب سلوكيات الشباب ضرورة حتمية. فالتفكير بأسلوب الأجيال السابقة، وبناء التنظيمات وفقًا لهذا التفكير، لا يَعِدُ بأي مستقبل مشرق. على بعض الوحدات الاقتصادية أن تتبنى نهجًا يشبه مقاهي الشاي في المساجد، بينما يجب على وحدات أخرى أن تتبع ما يناسب طبيعة أعمالها.

على سبيل المثال، قد يفضل الشباب الدراجات النارية على السيارات. ولكن بالنسبة للأجيال السابقة، لم يكن يُنظر إلى هذين الخيارين باعتبارهما بدائل لبعضهما البعض. ومن منظورهم، فإن الاستثمار في تصنيع دراجات كهربائية كان ليُعتبر خطوة بعيدة عن التصورات المستقبلية.

كونوا على يقين أنه إذا ظهرت هواتف ذكية عملية وبدون علامة تجارية فسيختارها شباب اليوم. لم تعد معايير الجيل السابق في الإنفاق على الملابس الفاخرة والعلامات التجارية الأجنبية تحقق الأرباح كما كانت من قبل. بل حتى مفاهيم المتاجر يتغير. ففي قطاع الأجهزة المنزلية، على سبيل المثال، باتت المتاجر الاقتصادية وبيع المستعمل تزداد انتشارًا. وحتى في قطاع الصحة، تراجع الإقبال على قطاع الخدمات الصحية الخاص، فأصبحت المستشفيات الحكومية أكثر جذبًا بفضل خدماتها وكفاءتها الاقتصادية. يمكنني ضرب المزيد من الأمثلة، لكن هذه كافية لإيصال الفكرة وإظهار التغيير.

بالطبع، ليس الهدف من هذا هو إظهار التغيير للشباب، فربما يجدون صعوبة في فهم التغيير كونه جزءًا منهم أو قد لا يكترثون به. ولكن المؤسسات والجهات التي تتعامل مع هذه الفئة ملزمة بفهم التغيرات وتحليلها بما يتناسب مع طبيعة أعمالها، إذ يرتبط مستقبلها ارتباطًا وثيقًا بقدرتها على التكيف مع هذه التحولات. أما توظيف هذه التحليلات لمواجهة الرأسمالية، فهو بلا شك أمر مفيد.

ختامًا، يمكن استنتاج أن الطلب على المعايير الوظيفية قد يتجاوز في المستقبل الطلب على تعددية الخيارات التي توفرها الديمقراطية. ومن المحتمل أن تصبح الديمقراطية في الفترة القادمة، بما تطرحه من تنوع واسع في الخيارات، عرضةً للنقد بسبب زيادة مخاطر الخطأ الة بهذا التنوع.

عن الكاتب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *