اخبار تركيا

في تقرير بصحيفة يني شفق المحلية، سلط الكاتب والخبير التركي يحيى بستان، الضوء على التحولات الجيوسياسية الراهنة في منطقتي القوقاز والبلقان، في ظل تراجع النظام الدولي الذي تشكّل بعد الحرب الباردة.

ويركّز بستان في تقريره على مساعي تركيا لتقليل التوترات عبر مبادرات إقليمية، مثل “منصة السلام في البلقان” و”مشروع طريق التنمية”، كجزء من استراتيجية تقوم على الحلول التنموية والتعاون الأمني بعيدًا عن تدخلات القوى الكبرى.

كما يستعرض تطورات العلاقة بين أذربيجان وأرمينيا، والتدخل التركي الهادئ في أزمة البوسنة، في سياق تنافس متصاعد على النفوذ بين روسيا، الغرب، والولايات المتحدة، مع إشارات لقلق إيران من مشروع زنغزور.

وفيما يلي نص المقال:

ثمة سببان رئيسيان للأزمات التي نعيشها اليوم؛ أولاً: ما تبقّى من إرث الحرب الباردة يتداعى اليوم بزلزال كبير. ثانيًا: الأزمات التي جُمِّدت بعد الحرب الباردة بدأت بالذوبان.

ولذا قلنا سابقاً: “مع طيّ صفحة أوكرانيا، قد يكون مسرح الصراع التالي بين روسيا والغرب هو البلقان والقوقاز”.

وفي القوقاز، يُعدّ مسار تطبيع العلاقات بين أذربيجان وأرمينيا، ومحادثات علييف وباشينيان، تطورًا إيجابيًا من ناحية. ولكن إذا أُديرت بشكل خاطئ، فقد تفتح الباب أمام أزمات جديدة. وقد أحرزت لقاءات الزعيمين في أبو ظبي تقدماً، لاسيما في ملف ممر زنغزور، وتبع ذلك مزاعم عن قبول يريفان لبعض المطالب الدستورية التي تقدمت بها باكو، مما يشير إلى تقدم ملموس في المسار.

أما أزمة الاعتقالات التي اندلعت بين موسكو وباكو، فقد جاءت في جزء منها كردّ على هذا الواقع الجديد. إذ فسرت أذربيجان الخطوة الروسية على أنها “تحوّل في التركيز نحو منطقتنا مع اقتراب إغلاق ملف أوكرانيا”. ثم جاء عرض الروس ولاحقًا المبعوث الخاص لترامب، باراك لإدارة ممر زنغزور، ليتقاطع تمامًا مع ما أشرنا إليه سابقًا. أمّا الإعلام الإيراني، فيعلّق على الأمر بقوله: “الأميركيون يسعون للسيطرة على مشروع زنغزور لأن الهدف النهائي هو تفكيك إيران”. وبالتالي، بات الممر خطاً أحمر لطهران، وعلى علييف وباشينيان أن يُسرعا خطواتهما.

الجهود الخفية لأردوغان

لكن موضوعنا ليس القوقاز، بل البلقان المجاورة لتركيا، حيث تتراكم طاقة سلبية يومًا بعد يوم. فالصراعات بين كوسوفو وصربيا، والتوتر بين صربيا والبوسنة والهرسك، والنشاط المتزايد لدى الانفصاليين الصرب، تجعل من المنطقة أرضًا خصبة للصراع بين القوى العالمية. وأي توتر قد يحدث هناك من شأنه أن يُعرّض أمن تركيا والشعوب الصديقة للخطر.

إن الأزمة التي حصلت في شهر آذار/مارس كانت مثيرة للقلق، حيث أشعل ميلوراد دوديك، زعيم صرب البوسنة، فتيل أزمة كبرى بخطابه وسلوكياته الانفصالية، وتبع ذلك صدور مذكرة توقيف بحقه. وفي تلك الأيام، تدخل الرئيس رجب طيب أردوغان، وعقد أربع لقاءات بعيدا عن الأضواء خلال 15 يومًا. وفي التصريحات الرسمية، صدرت تحذيرات واضحة وصريحة موجّهة لدوديك.

وتواصلتُ مع بعض الزملاء الصحفيين في البوسنة والهرسك للاطلاع على آخر المستجدات، وأكدوا لي أن تدخّل أنقرة ساهم في تهدئة الأزمة نسبيًّا. بل إن دوديك نفسه ذهب مؤخرًا إلى النيابة العامة وأدلى بإفادته، لتُرفع لاحقًا مذكرة التوقيف بحقه. ويمكن القول إن الأزمة قد أُجّلت.

ولكن لا يُستبعد أن تندلع مجددا، فهناك مشكلة بنيوية لم تُحل بعد، وهذه المشكلة تعود جذورها إلى اتفاق دايتون. ففي عام 1995، جمّدت الولايات المتحدة الأزمة بهذا الاتفاق، لكنها لم تحلّها، بل قامت فقط بكنسها وإخفائها تحت السجادة.

ورقة جديدة تُكشف في البلقان

تعتمد أنقرة نموذجًا خاصًا في حلّ الأزمات. فهي تحلّل الأزمات المحتملة والراهنة، وتبني نماذج حلول مشتركة قائمة على التنمية والرخاء. وتهدف إلى إدارة هذه الأزمات قبل أن تتحوّل إلى ساحة صراع للقوى الكبرى، أو كما يُقال قبل أن “يتجمّع الذباب على الجرح المفتوح”. ويمكن القول أيضًا إن تركيا تُشهر أوراقها في وجه تدخلات الهيمنة.

ولا بد من التذكير بالمسار الذي بدأ مع زيارة وزير الخارجية هاكان فيدان إلى العراق في 2023، والذي أثمر لاحقاً عن مشروع “طريق التنمية العراقي”. جوهر هذا المشروع يتمثّل في تعزيز المصالح المتبادلة، والرفاه، والأمن المشترك. إنه نموذج لحلّ إقليمي لمشكلة إقليمية، تشارك فيه تركيا والعراق وقطر والإمارات.

وتجني تركيا اليوم ثمار مشروع “طريق التنمية” في ملف “تركيا خالية من الإرهاب”، وفي ما يخص الملف السوري. فقد أرست أنقرة تعاونًا عميقًا مع بغداد في قضايا تمسّ الأمن الإقليمي. وقد لفت انتباهي مؤخرًا خبر يشير إلى إمكانية انضمام سوريا إلى هذا المشروع. ومن المعروف أن تركيا تطرح منظورًا مشابهًا لحل الأزمات في القارة الإفريقية أيضًا، ويمكن إدراج مساعيها المتعلقة بممر زنغزور ضمن هذا الإطار.

ويبدو أن تركيا بدأت اليوم كذلك باتخاذ خطوات تهدف إلى إزالة “عوامل التهديد المحتملة” في منطقة البلقان. بل يمكن القول إن أنقرة بصدد فتح صفحة جديدة في هذه المنطقة. وفي هذا السياق، شهدت إسطنبول خلال عطلة نهاية الأسبوع لقاءً مهمًا؛ حيث اجتمع وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، مع نظرائه من البوسنة والهرسك، والجبل الأسود، ومقدونيا الشمالية، وصربيا، وألبانيا وكوسوفو، وذلك في إطار ما يُعرف بـ”منصة السلام في البلقان”.

هل هناك ما يُطبخ في الكواليس؟

أنقرة هي صاحبة الفكرة الأساسية لهذه المنصة. وتهدف المبادرة إلى معالجة الأزمات القائمة في البلقان من منظور إقليمي دون تدخل القوى المهيمنة (وأُشير هنا تحديدًا إلى الاتحاد الأوروبي وروسيا). وكما عبّر الوزير فيدان: “علينا أن نجد حلولًا بلقانية لمشاكل البلقان”.

ويُعد هذا اللقاء الأول من نوعه، وقد عُقد بصيغة غير رسمية تتيح لجميع الأطراف مناقشة مختلف القضايا في أجواء صريحة وغير مُقيّدة. ولذلك لم يُسمح بوجود المدوّنين أو تدوين المحاضر. فمشاكل المنطقة معقدة ومتجذرة، ومن أجل تجنب أي توتر، لا سيما بسبب النزاع بين صربيا وكوسوفو، لم تُكتب أسماء الدول على الطاولات، بل أُدرجت أسماء العواصم فقط.

وبحسب التصريحات الرسمية والمعلومات الواردة من خلف الكواليس، فقد ركز الاجتماع الأول لمنصة السلام في البلقان على النقاط التالية:

1ـ مناقشة القضايا الثنائية بين الدول.

2ـ بحث التنسيق في الملفات المتعلقة بالاتحاد الأوروبي.

3ـ التأكيد على التعاون في مجال الصناعات الدفاعية.

4ـ التوصل إلى توافق بشأن ضرورة إيجاد حلول إقليمية للمشاكل الإقليمية.

5ـ الاتفاق على عقد اجتماعات دورية كل ستة أشهر، على أن يُعقد الاجتماع المقبل أيضاً في إسطنبول.

هذه هي النتائج الأولية. ولكن هل سيُفضي هذا المسار إلى إطلاق مشروع ملموس يعزز السلام في منطقة البلقان؟ أعتقد أنه ثمة مشروع تنموي جديد يُحضّر له حاليًا في الكواليس.

شاركها.