اخبار تركيا
تناول مقال للكاتبنور الدين العلوي،استاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية، تحوّلات المشهد السياسي في الشرق الأوسط بعد عملية “طوفان الأقصى”، مركّزًا على آثارها العميقة على موازين القوى في المنطقة.
يناقش المقال الذي نشره موقع الجزيرة مباشر الكلفة التي دفعتها غزة، والتغيّرات المتسارعة في وعي الشعوب والرأي العام العالمي، وتداعيات ذلك على مستقبل الكيان الإسرائيلي.
كما يُبرز الكاتب مؤشرات على تصاعد التوتر بين تركيا وإسرائيل، ويرى أن المنطقة مقبلة على تغير جذري قد يعيد تشكيل الخريطة السياسية، مشيرًا إلى أن ما بعد “الطوفان” لن يشبه ما قبله، وأن رياح التغيير باتت أقرب مما يُتصور.
وفيما يلي نص المقال:
لن يهدأ الشرق الأوسط والمنطقة العربية بعد طوفان الأقصى. لقد أُلقي الحجر في البحر الراكد. دفعت غزة كل الكلفة، لكن النار تسري ولن يتغافل عنها إلا قصير نظر. نُذر حرب بين تركيا والكيان يُسمع منها ضجيج عالٍ بعد، وإن كانت الدبلوماسية تحاول قطع طريق الحرب. إيران مجروحة في كرامتها وفي مشروعها الاستقلالي، وهي تداوي جروحها ولا تُظهر أية علامة استسلام لقدر يُراد له أن يكون مذلًّا. والنار تسري في القاهرة وما حولها، لم تنفجر بعد، ولكن نُذرها لا تخطئها العين. أما المغرب العربي فليس بمنجاة من النار. المنطقة على كف عفريت، وقد يكون عفريتًا يؤمن بالعدل الإلهي. أثر الطوفان وصل إلى آخر الأرض وبدأ يُغيّر الرأي العام العالمي (وإلا فما علاقة أستراليا بفلسطين؟). في المقابل، نرى الكيان بقائده المتغطرس يتقدم نحو حروب بلا نهاية، مثبتًا أنه كيان غريب عن المنطقة، وأنه لا يمكن أن يعيش دون حرب، وهو لا يطرح السؤال: إلى متى سيحارب؟ بين طرفي المعادلة نرى شرقًا يولد، ونرى تغييرًا عميقًا يتهيأ، ونُطامن الحماس بالصبر والتريث.
تدفع غزة الثمن وتصبر. وهي تتهيأ لاحتلال آخر بعد أن هرب منها شارون وفكك بؤر الاستيطان. مع الاحتلال، هناك فرص مقاومة أخرى تُتقن غزة ترتيبها للعدو. ولا تتهيب الأثمان. والكلام عن الأثمان يُخجل كل صاحب ضمير يقف خارج غزة عاجزًا بعد. نرى من حولنا منتظري الانتصارات المجانية يتهيؤون لحفل لم يُكلفهم شيئًا، ولكن نرى أيضًا عزمًا على النجدة يبحث عن منافذ لم تتيسر بعد. كل العالم الحي انتقل إلى صف غزة الآن وفي المستقبل. والشارع العربي، الأقل حركة، ليس صامتًا، لكن القهر يأكل النفوس وينذر. هنا وجه من وجوه الطوفان الذي تجاوز حدود غزة. هذه المأساة انكشفت تمامًا، والحل يتهيأ.
لقد استقوت الثورة السورية بأثر الطوفان، بعد أن دفعت أثمانًا باهظة قبله ومعه، وسقوط نظام بشار كان زلزالًا فتح فجوات حرية عارمة تحاول سوريا صونها من الردة المدعومة من العدو. وما حدث في سوريا مُغرٍ للكثير من جوارها. بلد غني بالثروات، وقوي بالجند، يُدار بالحرية. ليس للردة أمل في نصر، ولكنها تقوم فقط برفع كلفة الحرية لتزداد أهميتها لدى الناس. سوريا مفتاح الشرق، ويؤسس للحريات، وهذا طوفان آخر لن يتوقف طويلًا عند الخونة الصغار. هل هذا كافٍ للحديث عن التغيير العميق؟ ما زالت هناك حروب قادمة كُتبت كرهًا على الناس، ولكن الشرق، كل الشرق، محتاج إلى استئصال الورم.
لا نملك الجرأة على وضع توقعات، ولكن تركيا ليست حديقة ورد؛ إنها بلد يُنتج سلاحه. وإذا ملنا إلى المقارنة مع إيران، فإن لتركيا أفضلية في القوة الاقتصادية والتسليح والجند والموقع، ونظنها لن تُؤخذ على غرة. وتركيا تعرف ميزة أن يكون الشرق دون الكيان أو بكيان لا يمكنه شن الحروب. لقد بدأ في وسائل الدعاية الحربية الحديث عن “الانتقام التاريخي لوعد بلفور”. وهذه رسائل تتجاوز الكيان إلى صانعيه، الذين لا نشك أنهم يُقدّرون أفضل من الكيان كلفتها على اقتصادهم ومعيشة مواطنيهم. ستكون حربًا صهيونية تتحمل أوروبا كلفتها، وهي عاجزة عن دعم أوكرانيا، فهل تجد ما يكفي لدعم الكيان الذي لا جند له؟ هذه حرب لا تقف عند التراشق ببعض الصواريخ، ولا يمكن إيقافها إلا بنصر حاسم. وإذا كان بعض العرب يُفرطون في تقدير التعاطف التركي العربي (الإسلامي ضمنًا)، فإننا نرى تركيا تستعد لحرب من أجل تركيا أولًا، وهذا كافٍ ليكون طوفانًا آخر. لن يُحارِب أحد الأتراك ويعود مزهوًّا إلى بيته، هناك ثقافة حربية قديمة تشتغل في الخلفية.
انكشف الشرق العربي لأهله بوضوح: لا حياة لهم مع هذا الكيان. وقد قيل هذا الكلام منذ زمن طويل. لقد كشف الربيع العربي قبل الطوفان أهمية أن يعيش المرء حرًّا وأن يحكم نفسه. وهذا أيضًا حديث قديم في كتب كثيرة لم تتحول إلى أفعال. أُفشل الربيع العربي بفعل الكيان نفسه، لكن الدرس ترسخ في نفوس كثيرة، والطوفان أكمل تجلية الأمر، بحيث لم يعد يُنكر الحقيقة إلا متحرف عن قتال. لا يمكن للشرق العربي وجواره أن يكون حرًّا وسيدًا بوجود هذا الورم السرطاني (لا بأس من تكرار الحقيقة على الأذهان التي تُسارع إلى الكسل الفكري).
عرف الشرق عدوه، وعرف من يُناصر العدو من الداخل، ويُسمّى هذا الفرز التاريخي. لقد كان الثمن غاليًا، ولكن النتيجة تبدو لنا واعدة. وسيُترجمها فعل لم نصل إلى بنائه نظريًّا، ولا تقدير الزمن الكافي له بعد، ولكن لا يمكن إغفال الإرهاصات. وليس للزلازل مواعيد، إنما نجزم بأن الربيع العربي سيكون نزهة إزاء ما نتوقع من انفجارات. لن يكون ربيعًا لترميم دول متهالكة، بل سيكون ربيع هدم وتأسيس لعالم عربي (لدول) بلا كيان صهيوني، محكومة بالحرية وبالصندوق الانتخابي الشفاف.
يُصبح باطن الأرض خيرًا للعرب وللترك وللفُرس من ظهرها. لم تكن الحرب مع الغرب الاحتلالي أوضح مما هي الآن. هذا فرز عظيم أتاحه الطوفان، أو حوله من خيال جميل إلى واقع ممكن، ويقيننا أن الغرب سيُحارب بالكيان حتى آخر رصاصة في مخازنه. لكن رأس الحربة صار قابلًا للكسر. لقد خسر الكثير، والطائرة الشبحية لا تكفي للحسم. لقد هشّمته غزة بثمن قاسٍ، لكنه تهشّم، وليس له الآن جنود لميدان متحرك على أكثر من جبهة. يُدرك الغرب ذلك، ويُهدد بلغة “طرمب” الفهلوي الأخير في المشهد الدولي. يُدرك صُنّاع الكيان ذلك أيضًا، كما يُدركون أن الأرض تحتهم تميد، ولا يمكن حبس الجن في القمقم أكثر مما حُبس.
الكيان بعد الطوفان لم يعد قادرًا على نصر، والكيانات العميلة تفقد قدرتها على قهر شعوبها أكثر مما فعلت. لقد أُطلقت عفاريت الجوع في الشوارع. وأجهز عليها معبر رفح، ولم تُغطها الإنزالات الجوية المسرحية. هنا نترقب التغيير، وهنا نترقب شرق أوسط جديدا، وعالما عربيا جديدا يُبنى بالحرية، ويُعيد تحديد مجاله بإرادته، فيصنع نديّته مع الغرب.
ليُوسّع المؤمنون بالتغيير منطقة الصبر، ولا يستعجلوا النتائج كما استعجلوا نتائج الربيع العربي فحوّلوه عن طريق الحرية المؤسسة إلى طلب قوت قليل.
هل هذه الورقة تحليل رصين يُعتد به؟
إنه خلط متعمد للأحلام بالتوقعات، لفرد عربي وُلد تحت الاحتلال الصهيوني، ويُحال على المعاش، ولم يفقد صبره، فلم ينفك عن الحلم.
ومن لا حُلم له، لا مستقبل له.