غزوان المصري خاص اخبار تركيا
في خطوة قد تُعيد رسم خريطة المعادن الاستراتيجية العالمية، أعلنت الجمهورية التركيّة أن أراضيها تحتوي على احتياطات ضخمة من المعادن النادرة (Rare Earth Elements REEs) التي تُعدّ حجر الزاوية في الصناعات التكنولوجية الحديثة، من السيارات الكهربائية، إلى التوربينات الريحية، إلى الصناعات الدفاعية والفضائية. ولم تعد تركيا مجرد بلد مصدّر لخام معدني، بل تسعى لأن تتحول إلى لاعب صناعي ومعالِج لهذا المورد الحيوي. في هذا التقرير نسلّط الضوء على أهم المعادن في تركيا، وعلى المعادن النادرة بشكل خاص، وأهميتها الاقتصادية، ومرحلة الاستثمار الحالية، ودور تركيا المحتمل في كسر هيمنة الصين في سلاسل الإمداد العالمية.
أولاً: أهمية قطاع المعادن في تركيا ودوره في الاقتصاد الوطني
يُعدّ قطاع التعدين والمعادن أحد الأعمدة الأساسية في الاقتصاد التركي، إذ تملك تركيا تنوّعاً واسعاً في مواردها المعدنية، وتُصنّف من بين أكبر 10 دول من حيث تنوّع الثروات الباطنية في العالم. تحتوي الأراضي التركية على أكثر من 60 نوعاً من المعادن، ويُقدّر أن حوالي 40 منها تُستخرج وتُستخدم تجاريًا بشكل منتظم، مما يجعل هذا القطاع رافداً أساسياً للصناعة والتصدير والتوظيف.
من أبرز هذه المعادن: البورون: تمتلك تركيا ما يقارب 73٪ من الاحتياطي العالمي وهي المنتج الأول عالمياً. الكروم: من أهم صادرات تركيا المعدنية ويُستخدم في صناعة الفولاذ المقاوم للصدأ، إنتاج سنوي يقدر بـ 8.3 ملايين طن. النحاس: يُستخدم في الصناعات الكهربائية والإلكترونية. الذهب: بلغ إنتاج تركيا من الذهب أكثر من 30 طناً سنوياً في بعض السنوات. الرخام والحجر الطبيعي: تركيا من أكبر مصدّري الرخام عالمياً وتستحوذ على نحو 40٪ من الاحتياطي العالمي. الفلسبار، الباريت، المغنيسيت، البيرلايت: تُستخدم هذه المعادن في الصناعات الكيميائية والزجاجية والبنائية.
يساهم هذا القطاع بنسبة تتراوح بين 1.2٪ إلى 1.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي التركي سنوياً، ويعمل فيه أكثر من 150 ألف عامل بشكل مباشر، إضافة إلى مئات آلاف الوظائف غير المباشرة في الصناعات التحويلية والنقل والخدمات. كما بلغت قيمة صادرات المعادن والمنتجات التعدينية التركية أكثر من 6 مليارات دولار سنوياً خلال الأعوام الأخيرة، متوزعة على أكثر من 100 دولة، من بينها الصين، الولايات المتحدة، دول الاتحاد الأوروبي، ودول الخليج العربي.
ثانياً: اكتشاف المعادن النادرة في تركيا وحجمها
في عام 2022، أعلنت وزارة الطاقة والموارد الطبيعيّة التركيّة اكتشافها في منطقة Beylikova بمحافظة Eskişehir ما يصل إلى 694 مليون طن من الخام المحتمل للمعادن النادرة. ويحتوي هذا الخام على 10 من أصل 17 عنصراً من العناصر النادرة، ومنها السييريوم (Ce)، النيوديميوم (Nd)، البراسيوديميوم (Pr) وغيرها من العناصر الأساسية للمغناطيسات الدائمة والمحركات والخلايا المستخدمة في الصناعات التكنولوجية المتقدمة.
تشير التقديرات إلى أن نسبة الأكسيدات القابلة للاستخراج فعلياً قد تكون ما بين 0.2٪ و2٪ من الخام الكلي المُعلَن، أي ما يعادل تقريباً 14 مليون طن من أكاسيد المعادن النادرة، وهو احتياطي يضع تركيا في المرتبة الثانية عالمياً بعد الصين.
ثالثاً: الأهمية الاقتصادية الاستراتيجية
تمتلك تركيا فرصة ذهبية للانتقال من بلد مصدّر للخام إلى قاعدة صناعية لمعالجة المعادن عالية القيمة المضافة. تسيطر الصين حالياً على 60‑70٪ من إنتاج المعادن النادرة وأكثر من 80‑90٪ من قدرات المعالجة عالمياً. امتلاك تركيا لهذا المورد يمنحها موقعاً استراتيجياً في تنويع سلاسل الإمداد وتقليل الاعتماد العالمي على الصين.
يتوقع أن يدر الاستثمار في المعالجة والتصنيع مليارات الدولارات خلال العقود القادمة، مع خلق وظائف جديدة وتحسين الميزان التجاري وتعزيز الأمن الاقتصادي والتكنولوجي التركي.
رابعاً: مرحلة الاستثمار والتطوير
أطلقت تركيا مشروعاً بدعم من الاتحاد الأوروبي بقيمة 11.7 مليون يورو لتعزيز القدرات البحثية والصناعية في مجال المعادن النادرة. كما تم الإعلان عن إنشاء مصنع في منطقة Beylikova لمعالجة 570 ألف طن من الخام سنوياً، لإنتاج نحو 10 آلاف طن من أكاسيد المعادن النادرة سنوياً، بالإضافة إلى منتجات ثانوية أخرى.
تجري تركيا مفاوضات مع الولايات المتحدة ودول أخرى بهدف إقامة شراكات دولية في هذا القطاع، بما يفتح الباب أمام استثمارات أجنبية وعربية مشتركة.
خامساً: نحو كسر الاحتكار الصيني وتعزيز مكانة تركيا
من خلال تطوير قدراتها في الاستخراج والمعالجة والصناعة التحويلية، تستطيع تركيا أن تصبح مصدراً بديلاً للمعادن النادرة، وأن تساهم في بناء سلاسل إمداد عالمية أكثر توازناً. ويمكن للشراكات العربية‑التركية في هذا القطاع أن تفتح آفاقاً اقتصادية واسعة من خلال الاستثمار في المصانع والمعالجة وإنتاج التكنولوجيا.
سادساً: التحديات القائمة
رغم الإمكانيات الضخمة، تواجه تركيا عدداً من التحديات، من بينها: الحاجة إلى التحقق من الجدوى الاقتصادية ودرجة الخام. تطوير تقنيات المعالجة محلياً. إدارة الأبعاد البيئية. بناء سياسة وطنية واضحة للقطاع.
خاتمة
تمثل المعادن، سواء التقليدية منها أو النادرة، ركيزة مهمة للاقتصاد التركي الحالي والمستقبلي. وإذا استطاعت تركيا تحويل اكتشافاتها المعدنية إلى سلسلة قيمة متكاملة، فإنها لن تكون مجرد مورد خام، بل لاعباً دولياً مؤثراً في الاقتصاد التكنولوجي العالمي. كما يمكن للشراكات العربية‑التركية أن تلعب دوراً محورياً في هذا التحول، من خلال الاستثمار المشترك وتنويع مصادر المعادن الاستراتيجية عالمياً.
