اخبار تركيا

استعرض تقرير للكاتب والبرلماني التركي السابق ياسين أقطاي، العلاقة التاريخية المتشابكة بين سقوط الخلافة العثمانية وتأسيس دولة إسرائيل، وكيف ساهمت التحولات السياسية في تلك الفترة في خلق فراغ داخل العالم الإسلامي استغلته القوى الاستعمارية.

يناقش التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق كيف أدى قيام إسرائيل لاحقاً إلى إحياء فكرة الوحدة الإسلامية من جديد، سواء عبر الحركات الإسلامية العابرة للحدود أو من خلال مبادرات سياسية مثل تأسيس منظمة التعاون الإسلامي.

ويرصد كذلك التحول الكبير في مواقف الدول الإفريقية التي قطعت علاقاتها بإسرائيل بعد حرب 1973 وانضمت إلى المنظمة، موضحاً أن الصراع العربيالإسرائيلي كان عاملاً مركزياً في تشكيل خريطة التحالفات السياسية في العالم الإسلامي وإفريقيا.

وفيما يلي نص التقرير:

هناك ارتباط تاريخي وثيق بين تأسيس دولة إسرائيل وزوال الخلافة الإسلامية. فوعد بلفور، الذي نصَّ على قيام دولة إسرائيل على أراضي فلسطين، كان يتضمّن أيضًا حقيقة مفادها أن ذلك لن يكون ممكنًا في ظل وجود الخلافة. ولهذا فإن إحدى مراحل عملية تأسيس دولة إسرائيل كانت تتطلب إلغاء الخلافة.

إن كون جميع الأطراف الفاعلة التي لعبت الدور الرئيسي في الضعف الذي ظهر على الجبهة الفلسطينية قد أصبحوا أيضاً من الأطراف الفاعلة الرئيسية في النظام السياسي الجديد الذي أُلغيت فيه الخلافة، يُعدّ علاقة يجب متابعتها ضمن استمرارية هذه القصة. وإذا نظرنا إلى المشهد من هذه الزاوية، فليس من الصعب معرفة سبب تجاهل نقاط الضعف التي لا يمكن تفسيرها إلا بأنها متعمدة لدى الضباط العثمانيين آنذاك، والتي ظهرت أثناء سقوط القدس بعد جبهة غزة، عقب وعد بلفور.

إنها قصة مألوفة أن يهدم المنتصرون المؤسسة التي كان من المفترض أن يحاسبوا أمامها على هزائمهم التي تسببوا بها، ويكتبون لأنفسهم أدواراً مشرّفة كأبطال منتصرين. فمن الواضح جداً أن هزيمة غزة في الهجوم الثالث، والتي قاومت ببسالة وشرف وصدت هجومين بريطانيين قويين لم تكن بسبب ضعف الأبطال أنفسهم، بل بسبب ضعف القادة، تماماً كما هو الحال اليوم.

وبالطبع لم يكن هناك أي قيمة في الانسحاب وتسليم القدس للقوات البريطانية التي وصلت لاحقًا، دون إبداء أي مقاومة، بذريعة الحفاظ على الطابع التاريخي والروحي والثقافي والعمراني للمدينة من التضرر بسبب الحرب. ولكن حتى هذا قُدِّمَ كمثال على النبل والشرف. في حين أن كل ذلك كان يُنفَّذ وفق السيناريو الذي كتبه أولئك الذين أعلنوا وعد بلفور، وكان بعض من في الجيش العثماني أيضًا يؤدّون الدور الذي أُسند إليهم في هذه المسرحية.

ونعلم أن تركيا انتهجت سياسة لامبالاة كاملة تجاه الأراضي الفلسطينية حتى عام 1948، وهو عام تأسيس دولة إسرائيل. فلم يُطالب بأي حقوق ولم يُبدَ أي اهتمام تجاه هذه المنطقة. بل اختُلِقت أساطير “الخيانة العربية” لإخفاء الخيانات الحقيقية، وتم تغرس شعور بالاستياء الوطني في المجتمع كمبرر لإهمال هذه المنطقة. وفي ظل غياب أي صوت للشعب تحت حكم الحزب الواحد، كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل في مارس 1949، بعد تأسيسها في مايو 1948. وكما هو الحال في جميع سياسات حزب الشعب الجمهوري كان هذا القرار: “رغم إرادة الشعب”.

هل كان لدى الشعب في تلك الفترة أي قدرة للاعتراض على أية سياسة؟

تأسيس إسرائيل وإحياء فكرة العالم الإسلامي

وكما ارتبط قرار إقامة دولة إسرائيل تاريخياً بإلغاء الخلافة، فمن المفارقة أن تأسيس دولة إسرائيل أعاد إحياء فكرة “العالم الإسلامي” الممزق والمفكك. فبعد أن ألغيت الخلافة وبات العالم الإسلامي بلا رأس وبلا جسد، بدأت فكرة وحدة إسلامية جديدة بالظهور مع قيام دولة إسرائيل. وقد أشرنا سابقًا إلى حركة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية باعتبارهما ردّ فعلٍ مدنيًا عابرًا للحدود انتشر في العالم الإسلامي لسدّ الفراغ الذي نشأ بعد إلغاء الخلافة. وقد برزت الأولى بشكل خاص من خلال المتطوعين الذين دفعت بهم إلى الجبهة في كل الحروب التي عُرفت بالحروب العربية ضد إسرائيل.

غير أن إسرائيل، بكل طبيعة الشر التي تحملها، كانت سبباً في بعض الخير على مستوى الدول. فقد بادر الملك السعودي فيصل إلى تمثيل رد فعل جميع المسلمين في العالم ضد إحراق المسجد الأقصى، ودعا إلى عقد مؤتمر إسلامي، الأمر الذي أتاح إبراز الإسلام والمسلمين كقوة محورية سياسية جديدة في النظام العالمي القائم بعد إلغاء الخلافة. ورغم أن هذا الكيان، الذي أصبح اسمه لاحقاً منظمة التعاون الإسلامي، لم يصل اليوم إلى المستوى المطلوب من الأداء، إلا أنه ذكّر الدول الإسلامية، التي خضع معظمها للاستعمار في ظروف ما بعد الخلافة، بالتزامها ومسؤوليتها بتمثيل شعوبها المسلمة وقيمها وتطلعاتها.

إن ضعف الالتزام بهذه المسؤولية أصبح اختبارًا ومساءلة لهذه الحكومات، وهذا يمثل ضغطًا مقبولاً، وإن لم يكن كافياً. ومن القواعد الاجتماعية أن: الهجمات تُوقظ الهوية الجماعية، وتغذي روح التضامن والانتماء، وتقويها. وقد غذّى العدوان الصهيوني الإسرائيلي، والمقاومة الفلسطينية التي لا تعرف الاستسلام ضده، هذا التوجه باستمرار. وبفضل ذلك، انخرطت حتى الدول المسلمة في إفريقيا في فكرة الاتحاد الإسلامي وعلاقاته، رغم أن علاقاتها مع العالم الإسلامي لم تكن متينة بما فيه الكفاية حتى في عهد الخلافة.

منظمة التعاون الإسلامي تفصل أكثر من 30 دولة أفريقية عن إسرائيل وتضمها إلى التعاون الإسلامي

لعبت إسرائيل دوراً نشطاً للغاية في إفريقيا منذ تأسيسها، خاصة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مستغلة علاقاتها الوثيقة مع الغرب وخطابها القائم على “التعاون التنموي والزراعي”. فأقامت تل أبيب علاقات دبلوماسية مع أكثر من 30 دولة إفريقية، وقدمت الدعم التقني والتعليمي، ودعمت بعض الأنظمة المستقلة حديثاً. وفي المقابل، بقيت العلاقات العربية الإفريقية محدودة.

حدث التغيير الأكبر بعد حرب أكتوبر عام 1973. فقد شكلت حرب أكتوبر نقطة تحول مهمة في فهم الدول الأفريقية لطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي. وبأمر من الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز، استخدم العرب النفط سلاحاً للضغط على الدول الغربية الداعمة لإسرائيل، مؤكدين بذلك على القوة الاقتصادية والسياسية للعرب.

وخلصت الدول الإفريقية إلى أن مصالحها تكمن في التحالف مع الكتلة العربية الإسلامية بدلاً من الاستمرار في العلاقات مع إسرائيل، التي اعتبروها عدواً لشعوب الجنوب العالمي، بما في ذلك الشعوب الإفريقية.

ونتيجة لذلك، قطعت أكثر من 25 دولة إفريقية علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بين عامي 1973 و1974، تضامناً مع الموقف العربي. ومن أبرز هذه الدول: تشاد وأوغندا والنيجر ومالي والكونغو. وبعد عام 1973، ارتفع عدد الدول الإفريقية الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، التي تأسست عام 1969، بشكل سريع. وانضمت إليها دول مثل السنغال، وغينيا، ومالي، ونيجيريا، والنيجر، وتشاد، والسودان، والصومال، وغامبيا، وسيراليون.

ولم يكن الدافع للانضمام دينياً فحسب، بل كان سياسياً واستراتيجياً أيضاً، وتمثل ذلك في تعزيز التعاون مع العالم الإسلامي والعربي، والحصول على الدعم الاقتصادي من الصناديق العربية والإسلامية (مثل البنك الإسلامي للتنمية، الصندوق الكويتي، وغيرهما)، وتوفير حماية دبلوماسية ضد الضغوط الغربية أو الإسرائيلية.

في المقابل، أدت المقاطعة الواسعة إلى إغلاق معظم السفارات الإسرائيلية في أفريقيا، وتراجع الدعم الفني الإسرائيلي ليحل محله الدعم العربي والإسلامي عبر برامج التنمية. غير أن إسرائيل حاولت العودة تدريجياً إلى القارة في الثمانينات والتسعينات، خاصة بعد توقيع اتفاقيات السلام مع مصر، ثم اتفاقيات أوسلو.

الآن، وبعد 7 أكتوبر، أثبتت إسرائيل مجددا أنها تشكل تهديداً للعالم الإسلامي بأكمله بعدوانها الإبادي، وهي بذلك تغذي فكرة الاتحاد الإسلامي أكثر فأكثر. وبينما كانت تسعى لدفن هذا الكيان بالكامل في التاريخ، فإنها توقظ العملاق النائم، وتجني على نفسها.

شاركها.