إبراهيم قاراغول يني شفق

حظيت قمة ترامب بوتين في ألاسكا بمتابعة دقيقة من دولتين أساسيتين: تركيا والصين. فهذان البلدان، مع روسيا التي كانت طرفًا في القمة، يُعدّان من بين القوى القليلة التي تدير حساباتها الجيوسياسية بعقل استراتيجي رفيع، وتُجيد صياغة معادلات القوة العالمية بمهارة فائقة.

هذه القمة ليست يالطا جديدة ولن تكون كذلك أبدًا؛ فلا وجود للاتحاد السوفيتي ولا لعالم ثنائي القطبية. الشراكة الأوروبية الأمريكية تآكلت، وأوروبا تخلّت عن روح الوحدة واتجهت إلى حسابات مستقبلها الوطني. أما الولايات المتحدة، فهي تنكفئ على أزماتها الداخلية. ولم يعد هناك بلد مستعد لتحمّل المخاطر من أجلها سوى إسرائيل وبعض الدول الصغيرة صح.

تركيا تنهض كقوة كبرى بعد العثمانيين، والصين تُربك الغرب

روسيا تعيد بناء وجودها لكنها وحيدة، في مواجهة حرب شاملة مع الغرب. مواردها الواسعة تغري الغرب، ولا طاولة تفاوض قادرة على كبح شهيته المفتوحة.

أما الصين، فبقوتها الهائلة في رأس المال والتكنولوجيا والعسكر والعقل الاستراتيجي، أعادت صياغة معادلة القوة في جميع القارات، ووضعت الغرب أمام مستقبل بلا خيارات.

وفي المقابل، تنهض تركيا لأول مرة منذ سقوط الدولة العثمانية كقوة عظمى تتحرك من قلب الجغرافيا، مزلزلةً النظام الدولي. تتقدم بخطوات تاريخية لإعادة صياغة المكان والزمان، وتسير بحكمة وصبر نحو أهدافها.

من يظن أن أمريكا وروسيا ستقتسمان العالم مجددًا فقد انفصل عن الواقع. ذلك العالم ولى إلى غير رجعة، وما علينا إلا التفكير بأقدام راسخة ورؤى جديدة، فحسابات الحرب الباردة لم تعد صالحة لتفسير عالم اليوم.

مأساة “رجل السلام” المتحول إلى شريك إبادة

سعي ترامب لانتزاع لقب “رجل السلام” وحفر اسمه في التاريخ، لن يُعيد أمريكا إلى موقع القوة العظمى الوحيدة. ولو أراد فعلًا أن يكون رجل سلام، لكان بدأ بوقف الإبادة في غزة، فهي جريمة ضد الإنسانية كلها. التاريخ يُخلّد القادة الذين يقفون في الجانب الصحيح من القضايا الكبرى، لا الذين يتغاضون عن الجرائم طمعًا في نوبل أو مجد شخصي.

لكن الإدارة الأمريكية اليوم بعيدة كل البعد عن هذا الموقف، بل شريكة مباشرة في الجريمة. وترامب الذي ينتظر أن يُخلّد كرجل سلام قد يُسجل في المستقبل كمتهم بالإبادة.

مستقبل يُعدّ لإدهاش الغرب

محاولة ترامب إبعاد روسيا عن الصين مصيرها الفشل. فلا ثقة طويلة الأمد يمكن أن تُبنى بين موسكو وواشنطن أو أوروبا. يدرك بوتين بخبرته في فهم التوازنات الجديدة أن السياسة الاستعراضية لا مكان لها في عالم يتغير جذريًا.

على الغرب أن يعترف بالحقيقة: رصيد الثقة العالمي بالغرب انتهى. خمس قرون من الهيمنة الاستعمارية تتهاوى، حتى أصغر دول أفريقيا باتت تواجه السياسات الإمبريالية الغربية. لم يعد “الغرب مصدر القوة الوحيد” فكرة قابلة للحياة. فمناطق نفوذ جديدة تتشكل، ستُصيب الغرب بالصدمة.

الهدف الغربي: حرب بين تركيا وروسيا

في المدى المباشر، طُرح في قمة ألاسكا ملف إنهاء حرب أوكرانيا لمنح ترامب نقاطًا سياسية، لكن حتى ذلك صعب للغاية. وحتى إن توقفت الحرب، فلن يتوقف التوتر بين روسيا وأوروبا أو بين روسيا وبريطانيا، إذ تبقى لندن المهندس الأول لهذه الحرب، وستعيد إشعالها في مكان آخر إن توقفت في أوكرانيا.

الهدف الأخطر للغرب هو دفع روسيا وتركيا إلى حرب تستنزفهما معًا. فمثل هذا السيناريو يفتح الطريق أمام الغرب لنهب روسيا ويوقف صعود تركيا قبل أن يترسخ. غير أن البلدين حتى الآن نجحا في تجاوز هذا الامتحان.

ما بعد الحرب: إلى أين ستتجه أمريكا وروسيا وإسرائيل؟

ندعم السلام بلا قيد ولا شرط، لكن علينا أن نتساءل: ماذا بعد توقيع اتفاق سلام روسي أوكراني؟ إلى أين ستتجه بوصلات أمريكا وروسيا وأوروبا؟ وماذا عن إسرائيل بعد غزة؟

لقد كانت حروب العقود الماضية محصورة في منطقتنا، والآن لأول مرة خرجت إلى شرق أوروبا. ولكن الغرب، بمجرد أن ينهي هذا الملف، سيعود إلى قلب منطقتنا. والسؤال: هل نحن مستعدون؟

إسرائيل تتحرك ضد تركيا… والقوقاز وآسيا الوسطى على فوهة بركان

التوترات الروسية الأوروبية ستستمر، لكن موسكو ستعود بارتياح أكبر إلى القوقاز وآسيا الوسطى، ما ينذر بأزمات كبرى على حدود الأناضول. في تلك اللحظة لن تقف واشنطن ولا أوروبا إلى جانب الجمهوريات التركية.

عندها، ستستغل إسرائيل عودة واشنطن إلى الشرق الأوسط لتدفع بخطط “إيقاف تركيا”. مشروع جبهة ممتدة من شمال سوريا والعراق إلى شرق المتوسط وأegeه وكبروس جارٍ تنفيذه منذ سنوات، وتركيا تعمل منذ 15 تموز/يوليو على كسره تدريجيًا.

حرب تركية روسية تعني تدمير البلدين

بعد أوكرانيا، تواجه تركيا سيناريوهين خطيرين: أزمة مع روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى، ومواجهة مباشرة مع إسرائيل. بل قد تجد نفسها على شفير حرب معهما معًا. ولو اندلعت حرب تركية روسية، فستعني تدمير البلدين وفتح الطريق أمام هيمنة غربية مطلقة من الشرق الأوسط حتى آسيا الوسطى.

إسرائيل الخطر الأقرب

الخطر المباشر الذي على تركيا أن تستعد له هو إسرائيل. فإسرائيل لا تخطط عبر فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وحدها، بل تمتد بخططها حتى أوكرانيا والقوقاز.

منذ تأسيسها، لم تشهد العلاقات التركية الإسرائيلية تحوّلًا جذريًا كهذا، والجميع يدرك أن قوة تركيا المتصاعدة ستُضيّق المجال الاستراتيجي أمام إسرائيل. لهذا تعمل تل أبيب بكل قوتها لإشعال مواجهة شاملة مع أنقرة.

هل ستتمكن إسرائيل من إيقاف تركيا؟ الجواب: أبدًا

إسرائيل تسعى لحصر تركيا في حرب أو دفعها للتراجع. لكنها لن تنجح. فالطريق الوحيد هو المبادرة الهجومية: “الهجوم لا الدفاع”. تركيا تمتلك القوة والإرادة لجعل إسرائيل محاصرة داخل حدودها، بلا أفق ولا مجال تنفس.

إن وجود كيان إسرائيلي توسعي في قلب جغرافيتنا صار عبئًا قاتلًا على كل شعوب المنطقة. ولا مستقبل للمنطقة إلا بإضعافه وتحجيمه.

إسرائيل إلى زوال…

تركيا لن تسمح لإسرائيل بمساحة للحركة، بل ستدفعها إلى الانكماش والتفكك. قد يبدو الأمر للبعض حلمًا، لكنه بات ضرورة تاريخية تفرضها معادلات القوة في هذه الجغرافيا.

فالمجازر في غزة وحدها كافية لتبرير ذلك، فضلًا عن التهديدات الأكبر التي تلوح في الأفق. المستقبل يجب أن يُصاغ الآن، وإلا فالعواقب قد تكون سقوط صاروخ إسرائيلي على إسطنبول أو غرق سفينة في إيجه بذريعة “حادث عرضي”.

الحقيقة أن مواجهة هذا المستقبل واجب لا مفر منه، ومن لا يستعد له سيدفع الثمن غاليًا.

عن الكاتب


شاركها.