بقلم: الأستاذة داليا سليمي خاص اخبار تركيا

تُمثل المراسلات الرسمية بين الوكلاء التونسيين في إستانبول ووزراء تونس مادة مصدرية أولية بالغة الأهمية، فهي لا تقتصر على نقل الأخبار، بل تكشف عن تصورات معاصرة لما يجري في المركز العثماني. وقد اعتمد هذا البحث على مراسلات الوكيل التونسي محمد المثنِي المحفوظة في الأرشيف الوطني التونسي، والتي تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قصد دراسة ظاهرة الحرائق في العاصمة العثمانية. ويقوم منهجنا على القراءة التحليلية للنصوص الوثائقية من خلال استخراج المعطيات المباشرة التي تقدمها المراسلات حول تواريخ الحرائق، حجم الأضرار، والخسائر البشرية والمادية، وربط هذه المعطيات بالسياق العمراني والسياسي والاجتماعي للدولة العثمانية في تلك الفترة، وإبراز دلالات هذه الحوادث كما وردت في خطاب الوكيل التونسي، وما تحمله من إشارات إلى هشاشة البنية الإدارية والعمرانيّة.

الحرائق ومسّ الرمزية السّلطانية

تكشف إحدى المراسلات المؤرخة في 16 يونيو 1868م، عن حريق ضخم شبّ بجوار القصر السلطاني، حيث أتى على المباني المحيطة وأتلف ما يقارب ألف كيس من جواهر السّلطان عبد المجيد وجواريه. ويصف محمد المِثني المشهد بقوله:

«… وقعت حريقة في صراية برون ناحية الحريم وحواليها، فأحرقت الأخشاب بما فيها من المهمات في ظرف ثلاث ساعات. وخرجت حريم عبد المجيد وجواريه عرايا بلا فرجيات ولا يشمقات، وركبوهن في العربيّات أمام أعين الناس، وهن يبكين على ما ضاع لهن من الجواهر والمهمات…».

لم يكن هذا مجرد حادث عابر، بل كارثة مسّت قلب الدائرة السّلطانية وممتلكاتها الخاصة، فأضعفت صورة السّلطان باعتباره الضامن للأمن والحماية. وفي مراسلة أخرى بتاريخ 29 أغسطس 1866م، تحدّث المثني عن احتراق قصر ملكي يضم مسرحًا ومهمات ثمينة بلغت قيمتها ستة آلاف كيس، التهمتها النيران في ظرف ربع ساعة. ولم تقتصر الخسائر على الجانب المادّي، بل مسّت أيضًا الهيبة السياسية للسلطان، إذ استغل الدبلوماسيّون الأجانب هذه الحوادث للتأكيد على تدهور النّظام العثماني.

الحرائق ودوافع الإصلاح العمراني

في مراسلة أخرى تحدّث المِثني عن حريق هائل التهم نصف إستانبول في عشرين ساعة، ممتدًا من طُوب قابي حتّى الباب العالي ونور عثمانيّة وتربة السلطان محمود. وقد دمّر قصور كبار الباشوات ورجال الدّولة، فانعقد مجلس خاص للنظر في إعادة الإعمار بالحجر عوضًا عن الخشب. ويعكس هذا القرار وعيًا إصلاحيًا فرضته الكارثة، ويدرج في سياق إصلاحات التنظيمات التي سعت إلى تحديث البنية العمرانيّة والإدارية.

أما المراسلة المؤرخة في 9 يونيو 1870م، فقد أورد فيها المثني وصفًا لأحد أعنف الحرائق التي استمرت أربع عشرة ساعة، وأسفرت عن وفاة 511 شخصًا واحتراق عشرة آلاف منزل ودكّان. ورغم أنّ المباني كانت حجرية، فإنّ الرّياح العاصفة غذّت انتشار النيران بسرعة، مما يبرز محدوديّة الإجراءات الوقائية. وقد خلّف الحريق آثارًا عميقة تمثلت في تشريد آلاف السكان، وتعطّل الحركة التّجارية، وزيادة الأعباء المالية على خزينة الدولة. كما زاد من شعور السكان بعدم الأمان داخل عاصمة الدولة.

الحرائق والبعد السياسي

وفي مراسلة مؤرخة في 2 فبراير 1874م، أورد المثني خبر حريق شبّ في بيت الصدر الأعظم داخل دائرة الحريم، واكتسبت الحادثة بعدًا رمزيًا خاصًا، إذ مسّت أحد أرفع مناصب الدولة، وزاد وقعها مأساوية مرض ابنه حقي بك. وقد سارع السّلطان إلى إصدار أمر بإعادة بناء البيت على نفقة المال العام، كما بادرت والدته إلى تقديم مفروشات مساعدة. ويكشف هذا التصرف عن توظيف موارد الدّولة لترميم خسائر النخبة السياسيّة وضمان ولائها، في حين ظل عامة السكان المتضرّرين يعانون من فقدان المأوى وتبعات الكوارث.

دلالات عامة لمراسلات المِثني

تجمع هذه المراسلات بين الدقة الوصفية والعمق السياسي. فهي تبرز من جهة هشاشة البنية العمرانية القائمة على الخشب وضيق الشّوارع الذي صعّب عمليات الإطفاء، وتكشف من جهة أخرى عن عجز إداري ومالي للدّولة العثمانية في مواجهة الكوارث. كما تبرز بوضوح البعد السّياسي والرمزي للحرائق التي مسّت السّلطان وكبار رجالات الدولة، وأثّرت في صورة الدّولة أمام رعاياها والبعثات الأجنبيّة. وفي الآن نفسه حملت هذه المراسلات نزعة إصلاحيّة عبّر عنها المثني بدعوته إلى البناء بالحجر، بما ينسجم مع التحولات العمرانية لعصر التنظيمات.

الخاتمة

إن الحرائق التي اجتاحت إستانبول في القرن التاسع عشر لم تكن مجرد كوارث طبيعيّة عابرة، بل أحداث سياسيّة واجتماعية ذات أبعاد عميقة. فقد اختبرت قدرة الدولة العثمانية على حماية عاصمتها وأظهرت حدود سلطتها في مواجهة قوى الطبيعة، كما مسّت بصورة السّلطان وهيبته. ومن خلال مراسلات محمد المِثني التّونسي يتضح أن هذه الكوارث دفعت إلى التفكير في إصلاحات عمرانية ضمن سياق التنظيمات، لكنها كشفت في الوقت ذاته عن تباين واضح بين ما يحظى به رجال الدّولة من دعم وما يعيشه عامة النّاس من معاناة. وهكذا تمثل هذه الوثائق شهادة حيّة على تداخل العمراني بالسّياسي والرمزي في تاريخ العاصمة العثمانيّة.

شاركها.