اخبار تركيا

حول الجدران (1)

سليمان سيفي أوغون يني شفق

الجدار، كما هو معلوم للجميع، عنصر هندسي بامتياز.فهو يؤدي دورًا أساسيًا في عزل المباني أو حتى المناطق السكنية الأكبر عن العوالم الخارجية.

وتتمثل وظيفته الأساسية في حماية الإنسان من الأخطار، سواء أكانت طبيعية مثل البرد القارس والحرارة الشديدة، أو حيوية كتهديدات الحيوانات المفترسة.

كما يمكن أن تنبع المخاطر من البشر أنفسهم، سواء من أعداء معلنين يضمرون العداء أو غرباء مجهولين لا يُعرف عنهم شيء.

في هذا السياق، يصبح الجدار حليفًا لنا، يؤدي دورًا وقائيًا ويمنحنا الشعور بالأمان.

لكن، عبر التاريخ، لم يكن هناك شيء يحتفظ بنقائه المطلق، والجدار ليس استثناءً. فهو لم يعد مجرد عنصر بنائي جامد، بل بات يحمل دلالات رمزية متعددة، نتيجة تحولات وظيفته عبر الزمن.

على سبيل المثال، السجن يُعرَّف بالجدران، تمامًا كما هو حال المنازل. من الناحية الشكلية، إذا استثنينا عنصر الراحة، فإن منازلنا، المُحاطة بأربعة جدران، لا تختلف كثيرًا عن الزنازين.

لكن الفارق الجوهري بينهما يكمن في الغاية:

المنزل يُمثل وسيلة لحمايتنا من الأخطار الخارجية،

أما السجن، فهو وسيلة لعزل “الخطر” داخل الجدران.

وإذا قلصنا نطاق المقارنة، سنجد أن غرف منازلنا لا تختلف كثيرًا عن زنازين السجون، حيث تتشابه في فكرة الإغلاق والتحديد.

وهكذا، قد يتحول الجدار الذي يحمي الإنسان من الغرباء إلى قيد يسجنه داخل مساحاته المحدودة.

حين تتخذ الجدران أبعادًا رمزية، فإنها تفقد بعضًا من وظيفتها الأصلية الإيجابية، مما يفتح الباب أمام دلالات متناقضة.

فبينما توفر لنا الأمان ضد الغرباء، قد تسهم أيضًا في جعلنا غرباء عن العوالم الخارجية.

الإحساس بالاغتراب والانفصال عن العالم الخارجي يرتبط في كثير من الأحيان بوجود الجدران، فهي التي ترسم الحدود بين الداخل والخارج، بين الأمان والخطر، لكنها في الوقت ذاته تصنع الحواجز النفسية والاجتماعية بيننا وبين الآخرين.

داخل الجدار، في تلك العوالم المحصنة التي نصنعها لأنفسنا، يمكننا التمتع بنقاءٍ مؤقت. لكن يجب ألا ننسى أن هذه الحالة مؤقتة للغاية، لأن النقاء المطلق، إذا تحول إلى رغبة أو شغف مفرط، قد يؤدي إلى تقييد الإنسان لنفسه داخل حدود ضيقة، مما يجعله ذهنياً ونفسياً هشًا وضعيفًا.

هذا الأمر واضحٌ في الطبيعة، حيث نجد أن السلالات النقية معرضة أكثر للأمراض الوراثية المزمنة، في حين أن الأنواع الهجينة تكون أكثر مقاومة للأمراض وأكثر قوة من الناحية الصحية.

الأمر لا يقتصر على الطبيعة فحسب، بل ينطبق أيضًا على الثقافات. فكثير من المجتمعات تقيم جدرانًا مرئية وغير مرئية حول نفسها للحفاظ على هويتها الخاصة ومنع التأثيرات الخارجية.

لكن عندما تتداخل هذه الجدران الثقافية مع الروابط العرقية والدموية، يصبح الوضع أكثر تعقيدًا، حيث يؤدي ذلك إلى مزيد من التقوقع والانغلاق.

بعض الأديان تبنت هذه الجدران كجزء من تطورها، بينما سعت أديان أخرى إلى هدمها وإزالة الحواجز بين البشر. فعلى سبيل المثال، عند النظر إلى السياسات الثقافية التي تبنتها الأديان، نجد أن بعضها يربط الإيمان بالدم والنسب، ويقيم حدودًا صارمة بين “الإخوة” و”الغرباء”.

اليهودية التاريخية، على عكس اليهودية الأصلية، اعتمدت هذا النهج، حيث ارتبطت بالهوية العرقية المغلقة. أما المسيحية والإسلام، سواء في شكلهما الأصلي أو التاريخي، فقد رفضتا تمامًا فكرة الأخوة القائمة على روابط الدم، وسعتا إلى نشر رؤية شمولية جامعة.

لكن الممارسات التاريخية لم تكن دائمًا متماشية مع هذه الرؤية الشاملة، إذ إن الصراعات القبلية والطائفية استمرت حتى داخل الأديان التي تدّعي شموليتها.

ورغم أن بعض الأديان رفضت الروابط العرقية والدموية، إلا أن تفسيراتها المختلفة في البيئات الثقافية المتعددة أدت إلى خلافات عميقة ومعقدة.

وبهذا الصدد، أعتقد أن الدولة العثمانية قدمت نموذجًا حضاريًا فريدًا من حيث قدرتها على تحقيق التوازن بين الاختلافات الثقافية، وتجسيد مفهوم العالمية بأقصى درجاته الممكنة.

أما في العصر الحديث، فقد ادّعت الحداثة تبنيها لرؤية عالمية شاملة، حيث قدمت مشروع التنوير كدين جديد ذي طابع مدني.

وكانت المفاهيم الثلاثة الأساسية لهذا “الدين الحديث” هي: الحرية، والمساواة، والإخاء. لكن التجارب التاريخية والواقع العملي أظهرا تناقضًا صارخًا بين هذه الشعارات والتطبيق الفعلي.

ففي أوروبا، كان مفهوم “الغرب” نفسه بمثابة جدار أقيم ضد “الشرق”، وهو جدار أُسِّس على الاستعمار، واستُخدِم كأداة لتبرير العبودية والاستغلال، خاصة لصالح البيض والمسيحيين.

إلى حدٍّ ما، تمكنت الولايات المتحدة، باعتبارها جزءًا من الغرب الأطلسي، من كسر هذه القواعد. لقد قامت أمريكا على مبدأ جذب الفائض السكاني من جميع أنحاء العالم، ما جعلها تصوغ نفسها كـ”بوتقة صهر” تذوب فيها الفروقات الثقافية والعرقية.

كانت فكرة هذه البوتقة قوية للغاية لدرجة أنها طمست حقيقة المجازر الوحشية التي ارتكبها المستوطنون بحق مئات الآلاف من السكان الأصليين، وكذلك المعاملة القاسية التي تعرض لها الملايين من العبيد الذين جُلبوا قسرًا من إفريقيا.

من ناحية أخرى، تأسست الولايات المتحدة من خلال التمرد على الاستعمار البريطاني، وهو ما منع بروز هيمنة واضحة للنخبة الثقافية البروتستانتية البيضاء المعروفة اختصارًا بـ واسب (White AngloSaxon Protestants)، رغم أنها بقيت راسخة في البنية العميقة للمجتمع الأميركي.

بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة كيانًا عالميًا مفتوحًا أمام البشرية جمعاء، بغض النظر عن الدين أو الجنس أو الخلفية الثقافية.

وخلال هذه الفترة، استطاعت إنتاج دين جديد قائم على الاستهلاك المفرط، يمكن تسميته “دين الاستهلاك”، الذي قدمته للعالم كنموذج معاصر.

“الحلم الأمريكي” منح هذا الدين بعدًا روحانيًا خفيًا. “روح المغامرة” أضافت له طابع الإثارة والجذب. “الفرص والانتهازية” شكّلت الأساس العملي لهذا النموذج، حيث كان النجاح المادي هو المكافأة الكبرى.

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، وجدت أوروبا نفسها محاصرة داخل الجدران التي بنتها بنفسها. أما الولايات المتحدة خرجت منتصرة، جيث تخلّت عن أوروبا الشرقية لصالح الاتحاد السوفيتي، ولم يكن هناك من يجرؤ على الاعتراض.

وهكذا، رُسمت حدود جديدة بين شرق وغرب أوروبا، عبر إقامة جدار آخر، وكأن الرسالة كانت:

“هذا هو مصيركم، أنتم غير قادرين على العيش بلا جدران!”

لقد رفعت الولايات المتحدة شعار العيش بلا جدران، مما مثّل نوعًا من الإهانة للهوية الأوروبية القارية، وأدى إلى خلق عقدة نقص عميقة داخل أوروبا.

ومن هنا، يمكن النظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه محاولة للرد على هذه الإهانة، إذ سعى إلى تأسيس أوروبا بلا جدران، تتماشى مع مبادئ التنوير الكونية.

إلغاء الحدود بين الدول الأعضاء وحرية التنقل دون الحاجة إلى جوازات سفر. كل ذلك كان تطورًا مثيرًا ومدهشًا، بدا وكأنه خطوة تاريخية نحو تجاوز الانقسامات القديمة.

لكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينيات، وسقوط جدار برلين، وانضمام العديد من دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي، ظن البعض أن أوروبا القارية قد تمكنت أخيرًا من التغلب على عقدة تفوق الولايات المتحدة.

يتبع..

عن الكاتب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *