اخبار تركيا
تناول تقرير للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، أول مواجهة عسكرية مباشرة بين إيران وإسرائيل، والمعروفة بـ”حرب الاثني عشر يومًا”، مستعرضًا دلالاتها الرمزية والدينية والسياسية.
ويبيّن التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق كيف استفادت إيران من هذه الحرب رغم الخسائر، لتعيد صياغة سردية “الصبر الاستراتيجي” كحكمة وعقلانية، ما منح نظامها دفعة شعبية داخلية غير مسبوقة منذ عقود.
كما يُبرز الكاتب فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية، ويكشف كيف ساهم هذا الصراع في كسر صورة إسرائيل كقوة لا تُقهر، وفي الوقت نفسه، أتاح للولايات المتحدة الحفاظ على توازن القوى الإقليمي عبر ضبط العداء بين الطرفين.
ويركّز أيضاً على التحول الذي فرضته أحداث “طوفان الأقصى”، والتي دفعت إيران إلى مغادرة خندق الطائفية ومواجهة الصهيونية بشكل فعلي لأول مرة، بما قد يشكّل منعطفًا استراتيجيًا في علاقتها مع العالم الإسلامي. حسب وصفه.
وفيما يلي نص التقرير:
عندما أطلق ترامب على جزيرة الحرب بين إيران وإسرائيل اسم “حرب الاثني عشر يومًا”، كان يُشير من جهة إلى “حرب الأيام الستة” السابقة، ومن جهة أخرى يُصدر أمرًا لأطراف النزاع بوضع حدّ للحرب ومنع استمرارها إلى اليوم الثالث عشر قائلًا: “هذا يكفي”. غير أن الرقم 12 يحمل أيضاً دلالة رمزية ودينية خاصة بالنسبة لإيران الشيعية التي تؤمن بالأئمة الاثني عشر.
وقد يُعدّ هذا الجانب من أبسط انعكاسات الحرب. ولكن الحقيقة هي أنه رغم خسارة إيران لشخصيات مهمة، وتعرض منشآتها الحيوية لأضرار جسيمة، إلا أنها كانت الأقرب إلى صياغة رواية انتصار.
النظام الإيراني الآن أقوى من ذي قبل
وفي ظل مناخ ساد فيه تشكيك الجميع في حقيقة العداء المستمر منذ 47 عامًا بين البلدين، كحرب باردة، جاءت هذه الحرب لتتيح لإيران فرصة اختبار عدائها تجاه إسرائيل للمرة الأولى. كانت إيران تسعى جاهدة لتأجيل هذه الحرب قدر الإمكان، حتى لو تطلب ذلك التعرض لمواقف مهينة في بعض الأحيان. ولكن عندما بات الصدام محتومًا، فإن ردود الفعل التي أبدتها ميدانيًا أتاحت لها تفسير سلبيتها السابقة على أنها صبر وحكمة. ولا شك أن هذا الأمر يمثل هزيمةً حقيقيةً لإسرائيل ونتنياهو، الذي يواصل الحديث عن الإطاحة بالنظام في إيران. ففي حربه غير المتكافئة ضد حماس التي استمرت 620 يومًا، فشل نتينياهو في تحقيق أي من أهدافه المعلنة، وها هو يُمنى بإخفاق جديد أمام إيران محطما رقما قياسيا في الفشل. وفي خضمّ سخطٍ شعبيٍّ كبير ومعارضةٍ متزايدة ضد النظام، تحول هذا الفشل من محاولةٍ لهدم النظام الإيراني إلى قبلة حياةٍ له. وبفضل ذلك، بات النظام الإيراني اليوم يحظى بأكبر دعم شعبي له منذ عشرين عاماً.
ومن السذاجة الاعتقاد بأن إسرائيل أقدمت على ذلك بدافع الإحسان إلى إيران. فإيران وإسرائيل تُعدّان من أهم ركائز التوازن التي يقوم عليها النظام الأميركي في الشرق الأوسط، ولهذا ينبغي عدم السماح لأحد الطرفين بالقضاء على الآخر. وهذا لا ينفي بالضرورة وجود رغبة لدى كل طرف في تدمير الطرف المقابل. بل على العكس، فإن إسرائيل تُظهر حساسية مفرطة تجاه أي خطاب عدائي، حتى وإن اقتصر على المستوى الخطابي، وتعتبر هذه الخطابات فرصة لتعزيز مشروعها التوسعي الصهيوني.
حاجة دول المنطقة اليوم إلى الحماية الأميركية من “الخطر الإيراني” أصبحت أكثر إلحاحاً
إن دخول عناصر التوازن التي لا غنى عنها بالنسبة للنظام الأمريكي في صراع حقيقي يمكن التسامح معه، بل يمكن استخلاص فائدة منه. لقد أتاحت حرب الـ 12 يومًا لإيران فرصة لإظهار أن قدراتها الصاروخية والعسكرية ليست مجرد تهديدات جوفاء، بل واقع يجب أخذه على محمل الجد من قبل بقية أطراف المعادلة، وذلك من خلال مناورة حقيقية. لقد أصبحت إيران اليوم أكثر فعالية من ذي قبل، بعدما أثبتت قدرتها على إلحاق هزيمة بإسرائيل، التي تُعتبر قوة لا تُقهر، ولا يمكن المساس بها، وأن قبتها لا يمكن اختراقها، إذ أظهرت أنها قادرة على إصابتها، واختراقها، بل وجعل قبتها الدفاعية أشبه بالمصفاة. والآن أصبحت دول المنطقة بحاجة أكبر إلى الحماية الأمريكية ضد التهديد الإيراني. وهذا الوضع يفسر تمامًا دور الولايات المتحدة في هذه الحرب. فرغم إعلان ترامب بأن قدرات إيران النووية قد تم القضاء عليها، فإن اعتراض كلٍّ من إسرائيل والبنتاغون على هذا التصريح يشير إلى أن حسابات الجميع بشأن الحرب مختلفة.
في الواقع إن القضاء على قدرات إيران النووية أو تغيير نظامها لا يتماشى إطلاقًا مع حسابات الولايات المتحدة في المنطقة. بالنسبة للولايات المتحدة، فإن العداء الإيراني القابل للسيطرة والقوة النووية هما عنصران لا غنى عنهما في اللعبة. ولا يتطلب هذا وجود نظرية مؤامرة تنطوي على اتفاق مباشر بين إيران والولايات المتحدة. فالاتفاقات قد تتحقق أيضًا عندما تتبع الأطراف سياسات متبادلة تستفيد من توقع كل منها لتصرفات الآخر. وبالنسبة للولايات المتحدة، ما تزال عداوة إيران وقوتها ضمن حدود السيطرة، بل ويمكن استثمارها وتحقيق مكاسب منها.
طوفان الأقصى يجبر إيران على ترك المسلمين ومحاربة الصهاينة لأول مرة
والحقيقة أنه لولا اندلاع “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، لما كانت الحرب الباردة بين إيران والولايات المتحدة، أو حتى بين إيران وإسرائيل، لتتحول أبداً إلى صراع فعلي، بل كانت ستستمر إلى ما لا نهاية. غير أن هذا الحدث المفصلي دفع جميع الأطراف إلى إعادة تقييم تموضعها، وأعاد خلط أوراق اللعبة بالكامل. لقد زعزع أسس المكانة العالمية لإسرائيل، وانتزع منها سلاح استغلال الهولوكوست، وحطم صورة إسرائيل كقوة لا تُقهر ولا تُمسّ. كما عرّى ادعاءات الحداثة الغربية فيما يتعلق بحقوق الإنسان، والديمقراطية، والإنسانية، والعلمانية، وأظهر إفلاسها الأخلاقي بالكامل.
إن جميع التطورات السياسية الكبرى التي يشهدها العالم ة بشكل أو بآخر بطوفان الأقصى. أما التأثير الأعمق لهذا الطوفان على إيران، فيكمن في أنه دفعها خارج الدائرة الطائفية الضيقة التي طالما حُبست فيها، والتي كانت تدور في معظمها حول الصراع مع المسلمين وسفك دمائهم، ليضعها وجهاً لوجه مع الصهيونية والقوى الصليبية. فقد باتت إيران تخوض الآن مواجهة مباشرة مع العدو الذي طالما زعمت محاربته. أما حزب الله الذي أعلن مسبقا أن مقاومة الصهيونية هي سبب وجوده فقد انشغل بقتال المسلمين السنة في سوريا ولبنان، وحين جاءت لحظة المواجهة الحقيقية مع الصهيونية، لم يظهر له أثر يُذكر على ساحة المعركة.
ورغم ما دأبت إيران على رفعه حتى الآن من شعارات العداء الخطابي تجاه إسرائيل، إلا أن ممارساتها على أرض الواقع اقتصرت على خوض الحروب ضد المسلمين السنّة وسفك دمائهم. غير أن تطورات ما بعد السابع من أكتوبر دفعتها، خطوةً بعد أخرى، إلى مواجهة حقيقية ومباشرة مع إسرائيل. وقد اتضح أن ما خسرته إيران من نفوذ في سوريا لم يكن، كما كان يُظن، يمثل أي ميزة استراتيجية في صراعها مع إسرائيل. ذلك أن نظام الأسد، بوصفه حليفاً في الحرب الباردة بين طهران وتل أبيب، أظهر في أول اختبار حقيقي أنه أكثر وفاءً لإسرائيل من ولائه لإيران. ولم يعد ثمة شك اليوم أن الأسد هو من قدّم معظم المعلومات الاستخباراتية التي مكّنت إسرائيل من تنفيذ عمليات اغتيال استهدفت شخصيات بارزة في حزب الله وفي القيادة الإيرانية. ولأن هذه الحرب الباردة التي امتدت لما يقارب نصف قرن لم تُستنزف فيها إلا دماء المسلمين السنّة، فإن إيران لم تجد يوماً ما يستدعي اختبار ولاء الأسد في ما يتعلّق بإسرائيل.
لقد دفعت أحداث 7 أكتوبر إيران إلى حرب حقيقية مع الصهيونية، متماشية مع ادعاءاتها السابقة وسبب وجودها، مما منحها في الواقع فرصة لإعادة بناء روابطها مع الأمة الإسلامية. ويبقى عليها بالطبع أن تقرر كيفية استغلال هذه الفرصة. لكن النجاح الكبير والمكانة المرموقة التي حققتها في هذه الحرب الأولى يجب أن تكون قد أوصلت لها رسالة قوية بما يكفي.