اخبار تركيا

نشر موقع ” شيناري إيكونومتشي” تقريرا سلّط فيه الضوء على تمدّد النفوذ التركي داخل روسيا عبر ما يصفه بالغزو الصامت، إذ تستغل أنقرة انشغال موسكو في أوكرانيا لإعادة تشكيل هوية الجمهوريات المسلمة من تتارستان إلى القوقاز، عبر الدين والاقتصاد والقوة الناعمة، في محاولة لبناء «قوس تركي» يمتد حتى سيبيريا. وفقا لصحيفة “عربي21”.

وقال الموقع، في التقرير الذي ترجمته “عربي21″، إنه بينما تنشغل موسكو في أوكرانيا، تنفّذ تركيا “غزوًا صامتًا” في قلب روسيا، فعبر الدين والاقتصاد والقوة الناعمة، تعيد أنقرة رسم هوية الجمهوريات المسلمة الروسية، من تتارستان إلى القوقاز وبذلك يعمل أردوغان على إنشاء “قوس تركي” أمام أعين بوتين.

وأوضح الموقع أنه بينما يتركّز اهتمام الكرملين بشكلٍ هوسي على الجبهة الأوكرانية وعلى العقوبات الغربية، تُخاض في عمق الخلفية داخل الاتحاد الروسي لعبة أخرى، أشدّ خفاءً وأكثر مكرًا، ولا يتعلق الأمر بدبابات أو صواريخ، بل بالهوية والدين والتجارة، إنها مناورة التفافٍ شاملة يمكن أن نسمّيها “الغزو الصامت” لتركيا.

وتابع، “عندما ظهر إرسين تتار، زعيم جمهورية قبرص التركية الشمالية (التي لا تعترف بها سوى أنقرة)، في الصورة الجماعية للدول التركية خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، سجّلت موسكو الموقف، لكنها ربما لم تنتبه إلى مفارقته. فالمشهد ذاته الذي يُستَخدم لتلميع شرعية كيانٍ باحتلال في شرق المتوسط، بات يُوظَّف أيضًا كتمهيد عملي لإعادة تشكيل هوية المناطق المسلمة داخل روسيا”.

مشروع “تركستان المتصلة”

وأكد الموقع أن المخططون الإستراتيجيون في أنقرة لا يفكّروا بمنطق الحدود الإدارية، بل بمنطق الأقواس الثقافية، فهناك رؤية، غير خافية كثيرًا، تتخيّل قوسًا تركيًا يمتد من الأناضول حتى سيبيريا، وفي 2022، حدّدت السردية التركية ما لا يقل عن 10 مناطق روسية — من بينها تتارستان وباشكيريا وتشوفاشيا— بوصفها جمهوريات تركية داخل الاتحاد الروسي، كأجزاء من مشروعٍ كبير واحد.

وأضاف الموقع انه بالنسبة إلى روسيا، هذه مجرد أقاليم إدارية. أما بالنسبة إلى تركيا، فهم أقرباء ينبغي إعادة احتضانهم، ولا تحتاج أنقرة إلى إعادة رسم الخرائط الجغرافية؛ يكفيها أن تُعيد تشكيل الخريطة الذهنية لدى السكان وهو نفس النموذج الذي قد جرى تسويقه بنجاح في أذربيجان تحت شعار “دولتان، أمة واحدة”.

واليوم تُحاول أنقرة إسقاط الفكرة نفسها بشكل غير معلن داخل روسيا، والهدف ليس دفع هذه الجمهوريات إلى انفصالٍ دموي، بل تحويلها إلى “أذربيجانات بلا سيادة” تبقى على الورق جزءًا من الاتحاد الروسي، لكنها على مستوى الهوية والمشاعر والمرجعيات الثقافية، تنجذب تدريجيًا نحو إسطنبول وتدور في فلكها بحسب الموقع.

قازان: حصان طروادة الاقتصادي

وذكر الموقع أن قازان، عاصمة تتارستان، قد أصبحت المركز العصبي لهذه العملية، ومنتدى قازان ليس مجرد معرض، بل المنصة الاتحادية الرئيسية التي تربط روسيا بدول منظمة التعاون الإسلامي.

وأضاف الموقع أن النفوذ التركي يتجلّى من خلال:

• الاقتصاد و”حلال”: يستقطب المنتدى وفودًا تركية وخليجية لتوقيع اتفاقات اقتصادية واتفاقات تتعلق بشهادات اعتماد “حلال”.

• دبلوماسية مباشرة: يلتقي الزعيم التتاري رستم مينيخانوف مباشرةً مع أردوغان لمناقشة مشاريع مشتركة، متجاوزًا فعليًا “مرشّحات” موسكو.

• التعليم: تستضيف “الجامعة الاتحادية في قازان” طلابًا أتراكًا وتحافظ على اتفاقات مع مؤسسات تركية، فيما ينشر «معهد يونس أمره» اللغة والثقافة.

“ديانت” والقوة الناعمة الدينية

وذكر الموقع أنه إذا كان الاقتصاد يفتح الأبواب، فإن الدين يبني البيت، فلقد تحوّلت «رئاسة الشؤون الدينية» في تركيا («ديانت») إلى ذراع جيوسياسي شديد الفاعلية، بميزانية تتجاوز 3 مليارات دولار.

وأضاف الموقع أنه بينما صُمّم “إف إس بي” الروسي لمكافحة التمرّد المسلّح والإرهاب السلفي (إرث بيسلان والشيشان)، يبدو أنه أعمى تمامًا أمام نفوذٍ ديني مؤسسي ومعتدل، حيث تُنمّي السلطات الإسلامية الروسية علنًا روابطها مع أنقرة. والسردية التي تروّجها “ديانت” قوية: إذ يُقدَّم الإسلام في روسيا بوصفه إرثًا تركيًا قُطع بفعل الحكم القيصري والسوفييتي، وهو اليوم جاهزٌ للبعث من جديد بفضل دعم تركيا.

مفارقة الأمن الروسي

ووفق للموقع فإن موسكو تتعامل مع الملف من زاوية أمنية صِرفة: فهي تركّز على محاربة التمرّد المسلّح، وتشدّد قبضتها عبر مركزية السلطة الإدارية، وتنظر إلى الإسلام بوصفه احتمال خطرٍ أمني، وتراهن قبل كل شيء على ضبط الحدود المادية وحمايتها.

في المقابل، تتحرك أنقرة بمنطق الهوية: لا تسعى إلى صدام مباشر، بل إلى بناء هوية ثقافية جامعة، وإعادة توزيع الولاءات على مستوى المشاعر والانتماء بدلًا من المؤسسات، وتتعامل مع الإسلام كجسر دبلوماسي يفتح الأبواب، بينما تُمسك بخيوط التأثير عبر التحكم في «تدفّقات الوعي» وصناعة السرديات، لا عبر الخرائط والأسلاك الشائكة.

العمى الاستراتيجي ودور قطر

وذكر الموقع أن قطر تدخل على الخط لتعقيد المشهد أكثر؛ فبينما تبني أنقرة الهوية التركية، تموّل الدوحة البنية التحتية للتديّن. ومن دون دلائل على تمويلات رسمية مباشرة مفرطة، تبرز في أوراسيا قسمة أدوار واضحة: تركيا وقطر تُشكّلان بيئةً يصبح فيها كون المرء مسلمًا داخل روسيا ًا بمرجعيات خارجية لا تمرّ عبر موسكو.

ولفت الموقع إلى أن الاستخبارات الروسية، المنشغلة بمطاردة الجواسيس الغربيين أو الإرهابيين، لا تفتح ملفات حول برامج المنح الدراسية أو منتديات الأعمال. ومع ذلك، فهناك تحديدًا تتكوّن نخب الغد: حكّام أقاليم، ورؤساء جامعات، ومفتون ينظرون إلى إسطنبول بوصفها عاصمتهم الروحية.

العناق القاتل بين القيصر والسلطان

ويرى الموقع أن ثمة مفارقة عميقة تليق بأفضل مآسي اليونان القديمة، إذ ترتبط روسيا وتركيا باعتمادٍ متبادل لا تريد أيٌّ منهما الاعتراف به:

• اشترت تركيا منظومة “إس400” الروسية متحدّيةً حلف شمال الأطلسي، رغم أنها لا تبدو لاحقًا وكأنها تدمجها فعليًا ضمن قواتها المسلحة.

• تقوم روسيا ببناء محطة «آق قويو» النووية في تركيا.

• ومع ذلك، فإن الطائرات المسيّرة التركية “بيرقدار” تستهدف الجنود الروس، فيما ينخر النفوذ التركي السيادة الثقافية الروسية من الداخل.

وذكر الموقع أن موسكو والغرب على نحوٍ لافت يخشيان السيناريو ذاته: تشكّل حزامٍ سنّي ذي نفَس تركي وقابل للتعبئة، يمتد من الفولغا وصولًا إلى الاتحاد الأوروبي، ويدور سياسيًا وثقافيًا في فلك أنقرة. المشكلة ليست في الطموح التركي بحدّ ذاته، بل في أن روسيا سمحت بتمدده تحت ضغط الحاجة الاقتصادية، بينما غضّ الغرب الطرف عنه لانشغاله. وفي ظل صمت الإعلام السائد، تواصل أنقرة التقدّم خطوةً بعد أخرى.

لماذا تسمح روسيا لتركيا بتوسيع نفوذها في مناطق بهذه الحساسية؟

وأكد الموقع أن روسيا تجد نفسها في موقع ضعفٍ إستراتيجيًّا واقتصاديًّا بسبب العقوبات والحرب في أوكرانيا، وهي تحتاج بشدة إلى تركيا بوصفها محورًا للغاز، وقناة للتجارة الموازية، وشريكًا غير معادٍ داخل حلف شمال الأطلسي. لذلك تتحمّل موسكو التوسّع الثقافي لأردوغان باعتباره “شرًا أقل”، بهدف ضمان البقاء الاقتصادي الفوري، لكنها تُقلّل من شأن أثره بعيد المدى على تماسك الاتحاد الروسي من الداخل.

كيف تستخدم تركيا الدين كسلاح جيوسياسي؟

وبيّن الموقع أنه عبر “ديانت”، وهي الجهاز الحكومي المعني بالشؤون الدينية، لا تُصدّر تركيا العقيدة و الدين فقط، بل تُصدّر نموذجًا حضاريًا. ومن خلال تمويل المساجد، وتدريب أئمة روس، وتقديم منحٍ دراسية، تصنع أنقرة طبقةً قيادية دينية داخل الجمهوريات الروسية (مثل تتارستان وباشكيريا) ترى الإسلام عبر عدسةٍ تركية. وهذا ينقل مركز الولاء الروحي والثقافي من موسكو إلى إسطنبول، ويخلق رابطةً تتجاوز الحدود السياسية.

هل ينبغي للغرب أن يقلق من هذا “الغزو الصامت”؟

واختتم الموقع تقريره بالتأكيد على أنه ينبغي على الغرب أن يقلق بقدر ما تقلق موسكو. فرغم أن إضعاف روسيا قد يبدو مفيدًا، فإن تشكّل كتلة تركيةإسلامية متماسكة تمتد من أوروبا الوسطى حتى سيبيريا، تقودها أنقرة تزداد استقلالًا واندفاعًا، يُدخل متغيّرًا جديدًا يصعب التنبؤ به. هذا “الممر الهويّاتي” يفلت من السيطرة سواء لدى بروكسل أو لدى الكرملين، واضعًا أسس توازنات قوى مستقبلية قد لا تكون في صالح المصالح الأوروبية أو الأطلسية.

شاركها.