اخبار تركيا
تناول تقرير للكاتب والصحفي التركي أرسين تشيليك، الجلسة الختامية لمحكمة غزة، التي عُقدت في جامعة إسطنبول بعد جولات سابقة في لندن وسراييفو، بوصفها نموذجًا لمحكمة مدنية ضميرية نشأت استجابةً لفشل القانون الدولي في محاسبة إسرائيل على جرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
ويعرض الكاتب في تقريره بصحيفة يني شفق أبرز ما جاء في كلمات الشخصيات المشاركة، من تحذيرات أكاديمية بشأن الانهيار الأخلاقي للمؤسسات العلمية، إلى تأكيدات بأن الصمت الدولي جعل من الضمير الإنساني الملاذ الأخير للعدالة.
كما يستعرض تفاصيل القرار النهائي للمحكمة الذي وثّق منهجية الإبادة الجماعية من خلال التجويع والتدمير الممنهج واستهداف الصحفيين، واتهام الحكومات الغربية بالتواطؤ. ويبرز دعوة المحكمة إلى محاسبة الجناة وتعويض الضحايا، باعتبار أن العدالة لفلسطين باتت مسؤولية الضمير العالمي.
وفيما يلي نص التقرير:
في المقالين الأخيرين، تناولتُ بالتفصيل فشل القانون الدولي وكيفية توثيق “هيئة الضمير” بمحكمة غزة للجانب المروع من الإبادة الجماعية، بما في ذلك التجويع، والإبادة الحضرية، وانهيار النظام الصحي، وقتل الصحفيين.
واليوم، نصل إلى ختام هذه المحاكمة المدنية التاريخية، التي بدأت في لندن، واستمرت في سراييفو، ووصلت إلى جلساتها النهائية التي انعقدت على مدار أربعة أيام في قاعة “الدكتور جمیل بيلسل” بجامعة إسطنبول، واختتمت بالإعلان عن القرار النهائي بعد الاستماع إلى أكثر من 150 شاهدًا. وفي المقال الأخير حول المحكمة، سأشارك تفاصيل القرار وأبرز ملاحظات اليوم الأخير.
إشارة إلى الانهيار الأخلاقي للأوساط الأكاديمية
أكد رئيس جامعة إسطنبول، البروفيسور عثمان بولنت ذو الفقار، في كلمته الافتتاحية لجلسة اتخاذ القرار، أن العلم لا يمكن أن يظل صامتا في وجه الظلم قائلاً: “قتل الناس ظلماً، وتشريدهم من أوطانهم كان موجوداً بالأمس، وما زال موجودا اليوم. يجب أن نتصدى له حتى لا يتكرر غدًا.. ويجب أن تكون هناك متابعة دقيقة لتقديم وشرح وتطبيق كل ما يلزم لمنع تكرار هذه الانتهاكات”.
كانت هذه الكلمات بمثابة تذكير مباشر بالصمت العميق و”الانهيار الأخلاقي” الذي أصاب المجتمع الأكاديمي الدولي.
ولنتذكر ما حدث في أمريكا العام الماضي؛ حيث تعرض رؤساء جامعات هارفارد، وبنسلفانيا، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، لاستجواب قاسٍ في جلسة مخزية عقدها الكونغرس الأمريكي، بسبب الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين في حرم جامعاتهم. وقد أسفر الضغط الصهيوني السياسي، الذي صنف احتجاجات الطلاب المنتقدة للإبادة الجماعية الإسرائيلية ضمن “معاداة السامية” وجرّمها، عن نتائج سريعة، حيث أُجبرت رئيسة جامعة بنسلفانيا، ليز ماجيل على الاستقالة أولاً، تحت ضغط الممولين، تلتها رئيسة جامعة هارفارد، كلودين جاي. وقد أظهرت هاتان الحادثتان مدى سهولة انهيار “حصن حرية التعبير” في الأوساط الأكاديمية الغربية عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. فبدلاً من اتخاذ موقف ضد الإبادة الجماعية، تم إقصاء أولئك الذين سمحوا حتى للأصوات المنتقدة بالظهور من أعرق الجامعات الأمريكية.
ومن هنا، جاء نداء البروفيسور ذو الفقار من جامعة إسطنبول بأنه: “ينبغي للعالم العلمي ألا يظل صامتًا” و” أن تكون هناك متابعة دقيقة للأمور” كموقف يحمي شرف العلم والضمير في مواجهة عملية قمع الأصوات العالمية.
“المهمة الحقيقية تبدأ الآن”
وأشار رئيس منتدى شباب التعاون الإسلامي، طه آيهان، الذي تولى الدعم اللوجستي للمحكمة وأبدى جهداً كبيراً في التنسيق السليم للعملية منذ اليوم الأول، إلى أنهم دعموا هذه المبادرة منذ البداية لما “تتمتع به من بنية مستقلة تمامًا” وإيمانهم بأنها “مسؤولية فكرية وأخلاقية”. وأوضح آيهان أن محكمة غزة “كشفت عن غياب المساءلة، وضعف النظام الدولي الفاشل، والظلم الفادح الذي يتعرض له شعب يواصل العيش تحت وطأة الاحتلال والعدوان”. كما شدّد على أن المحكمة ليست نهاية المطاف بل بداية لمسار جديد، قائلاً: “بعد هذه الجلسة الختامية التي أصدرنا فيها القرار النهائي لمحكمة غزة، تبدأ المهمة الحقيقية الآن. القرار بأيدينا الآن؛ وعلينا أن نقنع جميع صناع القرار والمشرعين والقضاة حول العالم به. واجبنا هو تقديم مرتكبي الإبادة الجماعية والمتواطئين معهم والمبررين لجرائمهم إلى العدالة”.
حين يتم إسكات القانون يصبح الضمير الملاذ الأخير
وكشف النص النهائي للحكم، الذي تلته رئيسة هيئة المحلفين كريستين تشينكين في اليوم الأخير من الجلسات، عن فلسفة هذه المحكمة بوضوح: “إن هيئة المحلفين، التي تسترشد بالضمير وتستمد معرفتها من القانون الدولي لا تمتلك سلطة الدول، ولكن حين يتم إسكات القانون بالقوة، يصبح الضمير هو الملاذ الأخير. إن ما نقوم به هنا هو ردّ فعل من المجتمع المدني إزاء غياب المساءلة عن جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة. نحن نؤمن بوجوب تسمية الإبادة الجماعية وتوثيقها؛ فالإفلات من العقاب يواصل تغذية دوامة العنف في العالم. إن الإبادة الجماعية في غزة هي قضية الإنسانية جمعاء. وعندما تلتزم الدول الصمت، يجب على المجتمع المدني أن يتحدث”.
وأكدت الهيئة أنها قدّمت خطابًا مضادًا في مواجهة ادعاءات إسرائيل “الأمنية” وتوصيف ما يحدث بأنه “أزمة إنسانية”، قائلةً: “هذه ليست أزمة إنسانية؛ بل هو ارتكاب متعمد لأسوء الجرائم، وله عواقب إنسانية وخيمة”.
منهجية الإبادة الجماعية في نص القرار
استناداً إلى الشهادات وتقارير الخبراء التي تناولتها بالأمس، قامت هيئة المحلفين بتعريف الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل واحدة تلو الأخرى. وشدد القرار على أن الجرائم المرتكبة هي “جزء من خطة إبادة شاملة” وأنها “لن تنتهي بوقف إطلاق النار”.
وهذه قائمة الجرائم الموثقة:
التجويع والمجاعة: المنع المتعمد للغذاء والماء وموارد الحياة، والتدمير الممنهج لمنظومة الغذاء.
تدمير المساكن: التدمير المتعمد للمنازل والبنية التحتية، وجاء في القرار: “البيت ليس مجرد بناء؛ بل هو مكان للحب والحياة والذكريات والأمل والهوية”.
الإبادة البيئية: تدمير الموارد الحيوية من خلال إفساد التربة والماء والهواء.
إسقاط النظام الصحي: التدمير الممنهج للمستشفيات والعاملين في المجال الصحي.
القضاء على الحقّ في الإنجاب: استهداف الأجيال القادمة بمنع الإنجاب وتدمير خدمات الصحة الإنجابية.
إبادة المعرفة: تدمير مستقبل فلسطين الفكري عبر قتل الطلاب والأكاديميين وتدمير المؤسسات التعليمية.
استهداف الصحفيين: يُستهدف الصحفيون الفلسطينيون لتوثيقهم الإبادة الجماعية. حيث أن عدد الصحفيين الذين قُتلوا في هذه الحرب يفوق جميع ما شهدته الحروب الأخرى حتى الآن.
كما خلصت هيئة المحلفين إلى أن هذه الأفعال ليست “آثاراً جانبية للحرب”، بل هي “أدوات للإبادة الجماعية ذاتها”.
“الحكومات الغربية متواطئة في الإبادة الجماعية”
كان أحد أبرز ما ورد في القرار يتعلق بالتواطؤ، حيث خلصت المحكمة إلى أن الحكومات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، “متواطئة في الإبادة الجماعية” عبر تقديم “الدعم الدبلوماسي، والعسكري، والاقتصادي والتكنولوجي” لإسرائيل.
وأشار القرار إلى أن “المؤسسات الإعلامية والمؤسسات الأكاديمية وشركات التكنولوجيا والبنوك وسلاسل التوريد العالمية متواطئة بشكل مباشر أو غير مباشر”. كما أُدرجت الشركات التي توفر لإسرائيل بنى تحتية للحوسبة السحابية كـ مايكروسوفت وأمازون والتقنيات المستخدمة في المراقبة، ضمن منظومة الدعم هذه، ووصفت الهيئة هذا التكتل بأنه “أكثر أشكال الإمبريالية تطرفًا في القرن الحادي والعشرين”. كما بيّن القرار أن الأمم المتحدة “فشلت في أداء مهمتها التأسيسية بسبب نظام الفيتو والتحيزات السياسية.”
لم تعد هناك خطوط حمراء
أكّد رئيس المحكمة، البروفيسور الدكتور ريتشارد فولك، في كلمته الختامية، أنّ محكمة غزة هي “محكمة شعبية” وتُعدّ امتدادًا لتقليد “محكمة راسل” التي تأسست خلال حرب فيتنام.
ورحب فولك بنتائج هيئة المحلفين، ووجّه تحذيرًا تاريخيًا قائلاً: “إذا سُمح للمجرمين الإسرائيليين وداعميهم الغربيين بالإفلات من العدالة، وإذا تُرك الفلسطينيون الناجون دون الحصول على تعويضات مجدية ودون التحرر التام من قيود الصهيونية والاستعمار اللاإنسانية، فسيكون العالم قد صادق على واحدة من أسوأ المظالم في تاريخه”.
وشدد فولك على أن خطط السلام المزعومة مثل “خطة ترامب” أو “خطة ماكرون” تنتهك حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتهدف إلى تطبيع جرائم إسرائيل، ورسم خطاً واضحاً قائلا: “ينبغي أن يتولى الفلسطينيون إدارة إعادة إعمار غزة، بينما تتحمل إسرائيل وحلفاؤها كامل المسؤولية عن التعويضات.”
الدعوة النهائية: “باختصار، نطالب بالعدالة”
لقد أصبح نص القرار الذي قُدّم للرأي العام في ختام الجلسات بمثابة خارطة طريق ملموسة للضمير في عصر فشل فيه القانون:
“نطالب بمحاسبة الجناة وشركائهم، وتعويض الضحايا والناجين، والقضاء على الأسباب الجذرية للاستعمار الصهيوني، والاحتلال، والفصل العنصري، ورفض جميع محاولات تطبيع النظام الجائر، وأخيرًا، نطالب بحرية فلسطين. باختصار، نطالب بالعدالة.”
ملاحظة صحفية: لقد ظهرت فكرة محكمة غزة حين كنا نناقش فشل النظام الدولي وتعطّل القانون الرسمي تحت الضغوط السياسية. لقد مثلت المحكمة صوتاً واضحاً يؤكد أنه حيث يصمت القانون، يتحمل الضمير والمجتمع المدني المسؤولية.
إن تحمل البروفيسور ريتشارد فولك مسؤولية رئاسة المحكمة، رغم تقدمه في السن وظروفه الصحية، كان عملاً عظيماً وشجاعة كبيرة ودليلاً إرشادياً لمن يرغبون في التحرك ضد الإبادة الجماعية ولكنهم يفتقرون إلى خارطة طريق. كما أن اجتماع الشخصبات المتخصصة في مجالها كأعضاء “هيئة الضمير” وأعضاء المحكمة الآخرين، كان تحدياً فكرياً وأخلاقياً للضغوط الصهيونية لا سيّما في مناخٍ أُجبر فيه حتى رؤساء الجامعات في الغرب على الاستقالة.
إن “محكمة غزة”، التي لم يُفهم محتواها في البداية أو حاول البعض التقليل من شأنها، أثبتت من خلال اجتماعها في غضون عام في لندن وسراييفو، وأخيراً في إسطنبول، قدرة المجتمع المدني على بناء “مخزون من الأدلة” ومنصة للعدالة الأخلاقية في مواجهة الإبادة الجماعية، متجاوزة بذلك فكرة “إلقاء محاضرات” على الجهات الرسمية التي أصابها الشلل بسبب الفيتو السياسي.
ولا بدّ من الإشادة بالجهد الكبير الكامن وراء تنظيم هذه المحكمة؛ إذ انعقدت بفضل تفاني عددٍ كبير من الكفاءات المتميزة من بلدنا، الذين بذلوا كل ما بوسعهم من أجل غزة بعملٍ دؤوب وإخلاص كبير. يمكنني ذكر العديد من الأسماء، غير أنهم لا يرغبون في ذكر أسمائهم. لقد كنتُ شاهدًا منذ البداية على عملهم المتواصل ليلًا ونهارًا، وبذلهم قصارى جهدهم للوفاء بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية الملقاة على عاتقهم. لن تضيع جهودهم سدىً، وحين يتغير مسار التاريخ لصالح غزة في القريب العاجل، سيدرك العالم أجمع كيف أن حفنة من أصحاب الضمائر الحية قد حاصرت إسرائيل حتى ضاقت بها السبل.
 
									 
					