خارطة بناء سوريا: دروس من العالم لتجاوز المحنة

غزوان مصري خاص اخبار تركيا
سوريا اليوم تقف عند مفترق طرق تاريخي، وقد آن الأوان لبناء نموذج وطني جديد يعيد للبلاد توازنها واستقرارها بعد سنوات من الصراع والانقسام والدمار. لسنا أول دولة تمر بهذه التجربة، فالعالم مليء بنماذج عانت ما عانته سوريا وأكثر، ثم نهضت وأعادت بناء دولها ومجتمعاتها على أسس العدالة والمواطنة. ومن أبرز هذه النماذج: رواندا، جنوب إفريقيا، البوسنة والهرسك، كولومبيا، لبنان، وسيراليون.
في رواندا، وبعد مجازر الإبادة عام 1994، تجاوز الشعب جراحه عبر بناء هوية وطنية جامعة ألغت الانتماءات العرقية، وركزت على المصالحة المجتمعية والتنمية الشاملة. وفي جنوب إفريقيا، اختار مانديلا طريق التسامح لا الانتقام، وأسست لجنة الحقيقة والمصالحة أساسًا لبناء عقد اجتماعي عادل. أما البوسنة، فنجحت رغم الانقسام السياسي والطائفي، في إعادة الإعمار بدعم دولي، وتحقيق حد أدنى من الاستقرار.
من جهة أخرى، طورت كولومبيا نموذجًا فعالًا للسلام بعد خمسين عامًا من الحرب، ارتكز على إعادة دمج المقاتلين، ودعم المجتمعات الريفية. وفي سيراليون، اعتمدت الدولة على المحاكم الخاصة ومشاركة المجتمع المحلي لإعادة بناء مؤسساتها، فيما أعاد لبنان إعمار عاصمته بيروت بمزيج من التمويل الخليجي والشراكة بين القطاعين العام والخاص، رغم بقاء ألغام الطائفية دون معالجة.
إذا كانت هذه الدول قد نجحت، فلماذا لا تنجح سوريا؟ لكن النجاح لا يأتي تلقائيًا، بل بحاجة إلى خريطة طريق واضحة، تبدأ من عقد اجتماعي جديد يقوم على المواطنة المتساوية، العدالة الانتقالية، والمصالحة الشاملة، بعيدًا عن الطائفية والمناطقية. إعادة الإعمار لا تقتصر على الحجر، بل تبدأ ببناء الإنسان، عبر إصلاح التعليم وتأهيل جيل يؤمن بقيم الدولة المدنية، كما في رواندا وجنوب إفريقيا. وتشمل أيضًا تأهيل البنية التحتية المدمرة، من خلال شراكات مع الدول الصديقة، واستقطاب رؤوس أموال السوريين في الشتات، كما فعلت البوسنة ولبنان.
أما الاقتصاد، فهو المحرك الأساس. يجب دعم الزراعة والصناعات الصغيرة، وتسهيل مشاريع الشباب، مع تعزيز التكامل الاقتصادي مع المحيط العربي والإقليمي. وفي القطاع الصحي، نحتاج إلى خطة لإعادة تأهيل المستشفيات، وتوفير التأمين الصحي الأساسي، كما حققت رواندا نجاحًا بارزًا في ذلك. ولا يمكن لأي نهضة أن تتم دون عودة اللاجئين، الذين يشكلون نصف الشعب السوري. يجب تهيئة بيئة آمنة وحوافز اقتصادية واجتماعية لعودتهم، تضمن الكرامة والمواطنة الكاملة.
الفرصة اليوم أمامنا كسوريين لصناعة المستقبل بأيدينا. لن نُعيد الماضي، ولن نُراهن على الخارج وحده، بل نُراهن على وعي الشعب، وعلى قدرته على التعلم من تجارب الآخرين. رواندا خرجت من المقابر الجماعية، وجنوب إفريقيا من الظلم العنصري، وكولومبيا من حرب العصابات، والبوسنة من الانقسام الطائفي، ولبنان من الدمار الكامل، وسيراليون من الإبادة والفساد… واليوم، سوريا تستطيع.