اخبار تركيا

تناول مقال للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، الذكرى الخامسة والأربعين لانقلاب 12 أيلول/سبتمبر 1980 في تركيا، مسلطًا الضوء على الإرث الدستوري الذي خلفه الانقلاب وما زال يشكّل الإطار القانوني للدولة حتى اليوم، رغم التعديلات العديدة التي طرأت عليه.

ويناقش أقطاي في مقاله بصحيفة يني شفق الإشكاليات الجوهرية في تعريف الدستور كعقد اجتماعي، في ظل فرضه بقوة السلاح وغياب المشاركة الشعبية الحقيقية في صياغته.

كما يستعرض مبادرة حزب “الدعوة الحرة” لعقد ورشة عمل تهدف إلى مناقشة سبل صياغة دستور مدني جديد، بمشاركة نخبة من السياسيين والأكاديميين، مع التركيز على أهمية التمثيل المجتمعي، ومراعاة الهوية الثقافية والدينية، والابتعاد عن القيود الأيديولوجية التي كرّسها دستور الانقلاب.

وفيما يلي نص المقال:

خمسة وأربعون عامًا مضت على الانقلاب العسكري في 12 أيلول/سبتمبر، الذي فرض على المجتمع التركي دستوره القائم حتى اليوم باعتباره العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الدولة والمواطنين، وعلاقات المواطنين ببعضهم البعض، ويحدد صلاحيات ومؤسسات الدولة. فحين استولى الانقلابيون على الحكم بقوة السلاح قبل 45 عاماً، كان أول ما أقدموا عليه هو إلغاء الدستور القائم آنذاك. صحيح أن شرعيتهم وصلاحياتهم كانت في الأصل مستمدة من ذلك الدستور، غير أنهم ابتدعوا بقوة السلاح، حقاً وصلاحية لا أصل لهما فيه، وألغوا بذلك الدستور ومعه كلّ الواجبات التي نصّ عليها.

وبفعلهم هذا، ذكّروا الشعب مرة أخرى بحقيقة مأساوية في تاريخ الدساتير. فالدساتير، التي تُعرَّف بأنها عقد اجتماعي، هي في الواقع نصوص يشارك فيها المجتمع في المرحلة الأخيرة فقط، وغالبًا ما تُفرض موافقته عليها بالإكراه. والدستور الذي فرضه انقلاب 12 سبتمبر لم يكن استثناءً، فقد كُتِبَ (أو أُمْليَ) من قبل الانقلابيين في ظل نظام ديكتاتوري قمعي، ولم يتركوا للشعب أي خيار آخر سوى الموافقة عليه في الاستفتاء العام.

ومع ذلك، كان لا بد أن تُستكمل الصورة الشكلية، وأن يحصل الدستور على أعلى مستوى من موافقة الشعب. ففي نهاية المطاف، حتى لو فُرض بالقوة، يبقى النص الذي يؤسس لبناء الدولة ويمنحها الشرعية. وحتى المعارضون له لا يستطيعون التحرك دون الرجوع إليه. ولهذا فإن سليمان دميريل، أحد أشد المعارضين لدستور الثاني عشر من أيلول، لم يكن يفارق نص ذلك الدستور ويستشهد به باستمرار.

هذه هي المُفارقة التي نواجهها إزاء الدستور أو القانون بشكل عام، فبغض النظر عن مدى سوئه أو اعتراضنا عليه، فإنه يتمتع بصلاحية فعلية في الوضع الراهن. وهذه الصلاحية تبقى قائمة بغضّ النظر عمّن فرضها وبأي وسيلة فُرضت. والجانب المأساوي في الأمر أنه رغم تسميته “عقدًا اجتماعيًا”، وكما أشار الأمير سعيد حليم باشا سابقًا، فإن “المجتمع” في هذه العملية هو في الواقع الاسم الرمزي للنخب البيروقراطية أو الأوليغارشية (العسكرية، المالية، العلمية).

إن دستور 12 أيلول دستور سيئ للغاية من حيث طريقة وضعه ومضمونه، لكنه مع ذلك لا يزال دستورنا. ورغم أنّه قد تغيّر كثيرًا، ولم تبقَ إلا مواد قليلة جدًا على حالها، فإن “روح 12 أيلول” ما زالت تسيطر عليه. فقد تغيرت العديد من مواده التي كانت موضوع انتقاد منذ لحظة صياغتها. وفي الذكرى الثلاثين له، خضع لتعديلات واسعة شملت 26 مادة. ثم خضع في عام 2017 لتعديل أكثر شمولاً على مستوى النظام، وها نحن اليوم مرة أخرى على أعتاب تعديل دستوري جديد.

إن مسألة صياغة دستور مدني بالكامل، بعيد عن روح انقلاب 12 أيلول، أصبحت منذ نحو عشرين عاماً جزءاً من الأجندة السياسية المتكررة. ومن أبرز ما تعلمناه خلال هذه الفترة أنّ تحقيق دستور مثالي وجيد لا يمكن أن يتم إلا بمشاركة المواطنين جميعاً في الحوار، وبتوفير قنوات حقيقية لمساهمتهم في عملية الصياغة. ومن ثمّ ترسخ الاعتقاد بأنّ انفتاح عملية إعداد الدستور على مشاركة الجميع يعد شرطاً ضرورياً لبلورة نصوص دستورية أفضل وأكثر تمثيلاً.

واستجابةً لدعوة الرئيس للجميع للمساهمة في صياغة دستور مدني جديد بالكامل، نظم حزب” الدعوة الحرة” ورشة عمل في إسطنبول يوم السبت تحت عنوان “السعي نحو توافق اجتماعي”. وقد قدمت مجموعة مرموقة من السياسيين والأكاديميين محاضرات على مدار اليوم، ناقشوا فيها بجدية الأساليب والمحتوى والشروط اللازمة لصياغة دستور جديد “جدير بالمحاولة”.

وعبارة “جدير بالمحاولة”، هي وصفي الشخصي للجهود المبذولة حاليًا، ولكنها أفضل تعبير يصف المخاوف الكامنة وراء المداولات العامة. فبعد الإعلان المسبق بأنه لن يتم المساس بالديباجة والمواد “الغير قابلة للتغيير” في الدستور الحالي، يصبح من حقنا أن نتساءل: هل تستحق التعديلات المقترحة كل هذا العناء؟ إن “روح 12 سبتمبر” كامنة تحديدًا في تلك المواد الأولى، وفي عدم جواز تغييرها أو حتى اقتراح تعديلها.

واللافت أن معظم هذه المواد لا تُثير أي جدل. فلا أحد يعترض على العلم، أو على أن أنقرة هي العاصمة، أو على توصيف الدولة بأنها «اجتماعية قانونية». غير أنّ إدراج اسم شخص بعينه في نصّ الدستور، ثم نسبة «القومية» إليه والتي لا يوجد إجماع حتى على معناها، يظل دائمًا مبررًا لأي سياسة أو ممارسة استبدادية. إن وضع شرط عدم التغيير في أي مادة دستورية يعني رهن إرادة الأجيال القادمة، وإهانة عقول وإرادة الأجيال الحالية والقادمة، وهو ما يليق تمامًا بانقلاب 12 سبتمبر.

فالعالم الذي نقف على أعتابه يتغير بسرعة فائقة؛ وتتجه فيه المعرفة والتطور التكنولوجي والعلاقات الإنسانية المتشابكة نحو مسار مختلف تمامًا. وفي مثل هذا العالم، لا يمكن لمجتمعٍ يُكبَّل منذ البداية بقيود أيديولوجية غامضة ومثيرة للجدل (شرط عدم التغيير) أن يحصل على مكانة مرموقة.

وفي ورشة العمل، أشار رئيس البرلمان السابق مصطفى شنطوب ورئيس حزب “الدعوة الحرة” زكريا يابيجي أوغلو في كلمتيهما الافتتاحيتين إلى أنه ثمة ما يكفي من الأسباب التي ظهرت وتراكمت لصياغة دستور جديد.

أما رئيس جمعية “أوزغور دار” رضوان كايا فقد لفت الأنظار إلى واقع اللاجئين في تركيا، الذين باتوا يشكّلون شريحة سكانية كبيرة وواسعة لا يمكن تجاهلها، مشددًا على ضرورة مراعاة حقوقهم في الدستور الجديد.

وشارك في الجلسات الافتتاحية للورشة كلٌّ من رئيس جمعية “مظلوم دار” المحامي كايا كرتال، ومحمد غوكطاش، وقدم كل من: حسين سودان، وعبد الرحمن أران، وأمير كايا، وأحمد سعيد أونر، ومحرم جوشكون، صفوت كوسى، وكايا كرتال، وحمزة توركمان، وعبد المطلب أربه، وإلهامي سايان، وخليل إبراهيم جليك، وعدنان أكلن، عروضًا ومداخلات في محاور متعددة شملت: “إشكالية السلطة والمنهج في صياغة دستور جديد في ضوء التجربة التركية”، و“ما الدولة؟ ولأي غاية وُجدت؟”، و“أيّ دستور نريد؟ البيان والتمثيل والحرية”، و“حماية الأسرة والفطرة”، و“الهويات العرقية والنظام الدستوري: المبادئ والمقاربات”، “هل يمكن وضع دستور جامع غير مؤدلج؟”، و“الحق في النشاط الاقتصادي القائم على المعتقد”، “الحقوق الثقافية وسبل حمايتها”، و“إعادة هيكلة التعليم: الاستمرارية والتغيير والحاجة والتوقعات”، و“حماية البيانات الشخصية والخصوصية”. وقد عكست هذه المداخلات نقدًا للدستور الحالي، واقتراحات لصياغة دستور جديد.

وجاء في البيان الختامي للورشة: «لقد حان الوقت للخروج من ظل دستور الانقلاب وصياغة دستور مدني، تشاركي وعادل. على الأكاديميين، والمحامين، والأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، وكافة شرائح المجتمع، أن يتحملوا هذه المسؤولية التاريخية ويبنوا مستقبلًا جديدًا معًا». وأرى أن جوهر اقتراحات حزب “الدعوة الحرة”، يتجلّى في هذه الكلمات:

“يجب أن تُبنى هوية تركيا الدستورية مع الأخذ بعين الاعتبار تراثها التاريخي وقيمها الاجتماعية. ويجب أن تنعكس المعايير الاجتماعية في معايير إيجابية وتدمج في النظام. وفي هذا السياق، ينبغي ألا تُغفل حقيقة أن أمتنا جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية في المفهوم الدستوري. ويجب أن يعكس الدستور الجديد هذه الهوية ليس على أنها تمييز، بل كمرجع يعزز ارتباط المجتمع بجذوره التاريخية والثقافية والروحية، بما يتوافق مع مبادئ حقوق الإنسان العالمية وسيادة القانون”.

شاركها.