اخبار تركيا

رحلة الإسراء ومستقبل الصراع مع الصهيونية

د. عطية عدلان الجزيرة مباشر

ها هو الصراع بين الإسلام والصهيونية يتأجّج ويزداد استعارًا، لن تُفْلح الهدنةُ القائمة في وقف تمدّد الحقد الصهيونيّ الأسود، ولن يتوقف الكيان عن التصعيد، في غزّة أو في الضفة، وكذلك المقاومة لن تهدأ حتى يتحقق حلمها الكبير الذي يضادّ الحلم الصهيونيّ مضادة النور للظلام، وها هي مناسبة الإسراء والمعراج تحلّ بنا مع استقرار الانتصار في هذه الجولة لأهل غزة وللمقاومة الباسلة؛ فهل في هذه المناسبة مَدَدٌ عقديّ ووقود معنويّ يسهم في حسم الصراع لصالح الفلسطينيين ولصالح الأمّة الإسلامية من ورائهم؟

لم تكن حادثة الإسراء مجرد معجزة وقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تضاف إلى سجل المعجزات الكثيرة التي تحفّ بالمعجزة الكبرى (القرآن) مثلما تحفّ سلسلة النخيل بالروضة الغنّاء، بل ربما لم يترجح بالمعنى الاصطلاحيّ الدقيق كونها معجزة؛ لأنّها لم يتوافر لها ركن أساسيّ من الأركان التي تمحضها للإعجاز وهو ركن التحدّي، وكذلك لم تتمحض الواقعة للتسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثر ردّ أهل الطائف له ردًّا سيئًا، وإنّما جاء الإسراء على رأس منعطف كبير وخطير في مسيرة الدعوة الإسلامية، جاءت الرحلة المباركة خاتمة لمرحلة ومفتتحة لمرحلة جديدة جدة كاملة، حيث كان القرآن الكريم قد أنهى تمامًا نظرية الوثنية، فَخَرَّتْ على عروشها تحت مطارق القرآن، وكانت الدعوة قد حققت ثلاثة مقاصد رئيسية، الأول: تمام البلاغ بقضية التوحيد وما يحتفّ بها من قضايا كبرى، الثاني: بناء القاعدة الصلبة التي سيقوم عليها بنيان الإسلام، الثالث: تقويض نظرية الوثنية؛ فلمّا تحققت هذه المقاصد على التمام بدأت مرحلة جديدة من الصراع، وهي الصراع مع أهل الكتاب وعلى رأسهم بنو إسرائيل، وسيكون هذا الصراع هو الأقوى والأدوم، وقد كانت دولة الروم البيزنطيين تدين بدين أهل الكتاب، وكانت في ذلك التوقيت تدنو من التفرد بالهيمنة وتعدّ للحرب التي ستصرع فيها الفرس بعد بضع سنين.

ولأنّ القرآن سيستقبل مرحلة جديدة يواجه فيها أهل الكتاب، ويخوض فيها صراعًا شديد الضراوة مع بني إسرائيل؛ جاءت رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى: {سُبْحانَ ‌الَّذِي ‌أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، جاءت لتُهَيِّئَ الأوضاع في مجال الصراع العقديّ لكسب جولة مبكرة ضدّ أهل الكتاب عامّة واليهود خاصّة، جاءت لتقول للناس: إنّ ميراث إبراهيم عليه السلام وتركة كل من انحدر من نسله من الأنبياء والملوك قد آلت ملكيتهما إلى هذه الأمّة، وإنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بما أنّه خاتم الأنبياء هو الوريث الوحيد لتركة النبوة، وإنّه لم يعد للناس طريق يدخلون به على الله إلا الإسلام.

ولأنّ الملكية تبدأ بوضع اليد وبسط اليمين ثمّ تستقرّ بالتوثيق والتصديق؛ جاءت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء بمثابة صكّ الملكية الذي لا تعقيب عليه، ومن يومها لم يعد لأهل الكتاب الحقّ في شيء من المقدسات ولا في شبر من الأرض المباركة ولا في موضع قدم من بيت المقدس، وذلك كله قبل أن يفتح المسلمون الشام ويحرروا المسجد الأقصى، وهذا سياق شرعيٌّ وعقليٌّ لا شكّ فيه ولا ارتياب؛ لأنّه إذا كان الإسلام قد نسخ تلك الديانات وأنهى دورها، وإذا كان المتدينون بها قد أساؤوا إليها بالتحريف والتصحيف والتزييف؛ فإنّ الموروث كلّه بما فيه المقدسات ينتقل تلقائيًّا إلى الدين الجديد الناسخ للقديم، وإلى الذين يدينون به ويدعون الخلق إليه، وكان بالإمكان تأخير عملية الانتقال هذه إلى يوم الفتح، لكنّه التبكير المطلوب لتوفير الوقود الذي يدفع عجلة الصراع بقوة في اتجاه حسم المعركة العقدية لصالح هذه الأمة، وهذا في الحقيقة بعد استراتيجيّ هائل، يوفر للقضية الفلسطينية وقودًا عقديًّا لا مثيل له، ويوفر للقضية حجية عالية، والصراع اليوم في مسيس الحاجة إلى هذا النوع من الزاد العقديّ العالي الدسم؛ لأنّ الصهاينة يعتمدون في صراعهم معنا وفي إنفاذهم للمشروع الصهيونيّ على نبوءات دينية غارقة في الدوغمائية، ومقابلة ذلك بخطاب خال من البعد العقديّ يضعف القضية في قلوب أصحابها قبل غيرهم.

واللافت للنظر المثير للتفكير أن يأتي بعد آية الإسراء هذه الآية وما بعدها من الآيات التي تتحدث عن علو بني إسرائيل: {وَقَضَيْنا ‌إِلى ‌بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}، وهذا يؤكد العلاقة بين الإسراء وبين الصراع الذي بدأ على أثر حادث الإسراء مباشرة، وإِذَنْ فنحن إذْ نشهد انتصارًا كبيرًا للمقاومة يأتي متزامنًا مع هذه المناسبة المباركة؛ نؤكد أهمية وضرورة البعد العقديّ في الصراع، ولعل هذا البعد هو الذي كان له الدور الحاسم في جميع أدوار المقاومة من لدن عزّ الدين القسام إلى كتائب عزّ الدين القسّام، فمن أراد لمستقبل القضية الفلسطينية خيرًا ونصرًا فعليه أن يعمل على تعزيز دور المقاومة الإسلامية المتمثلة في كتائب القسام وأخواتها، وأن يبذل وسعه في التضييق على أيّة محاولة تروم استبدال الأوضاع السياسية تمهيدًا للانقضاض على المقاومة.

عن الكاتب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *