اخبار تركيا
تناول مقال للكاتب والإعلامي التركي توران قشلاقجي، التحول العميق في الضمير العالمي الذي فجّرته مأساة غزة، مسلطًا الضوء على صعود زهران ممداني، السياسي المسلم ذي الأصول الأفريقية والآسيوية، والذي فاز بترشيح الحزب الديمقراطي لرئاسة بلدية نيويورك رغم حملة شرسة من اللوبي الصهيوني.
يُقدّم قشلاقجي في مقاله فوز ممداني ليس كحدث سياسي فحسب، بل كمؤشر على تحوّل أخلاقي عالمي متسارع، حيث باتت غزة رمزًا لإعادة تعريف العدالة، وبوصلة جديدة للإنسانية في مواجهة نظام عالمي مأزوم.
وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة القدس العربي:
لم تعد أراضي غزة المدمرة مجرد بقعة جغرافية، بل أصبحت رمزًا عظيمًا لإعادة إحياء ضمير الإنسانية. من الواضح جدًا أن هناك حقيقة مختلفة تمامًا تنشأ خلف تلك المباني المحترقة والشوارع المحطمة والليالي التي تعج بالصرخات: صحوة القلوب الصامتة في جميع أنحاء العالم…
نعم، دمر المتوحشون غزة. لكن هذا لم يهز الحجارة فقط، بل هز ضمير العالم أيضًا، بل إنه هزه من جذوره. بينما تحولت غزة إلى مأساة إنسانية في عصرنا، أصبحت في الوقت نفسه مرآة عظيمة يتجنبها العالم الحديث. ما يُرى في هذه المرآة ليس فقط وحشية إسرائيل، بل فساد النظام العالمي بأسره.
من عواصم الغرب إلى شوارع آسيا، ومن الطرق الترابية في إفريقيا إلى ساحات أمريكا اللاتينية، لم تعد صرخات «العدالة لغزة» مجرد احتجاجات، بل أصبحت بحثًا للإنسانية عن طريق جديد. بوصلة هذا البحث واضحة الآن: إعادة إقامة العدل، واستعادة حقوق الإنسان، وإعادة بناء القانون، وولادة ديمقراطية حقيقية… ونحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى سياسيين جدد وشجعان، ومفكرين لا يخشون الكلام، وضمائر لا تعرف الخوف، ليكونوا في طليعة هذا التحول.
واحدة من أبرز مظاهر هذا التحول حدثت هذا الأسبوع في نيويورك، إحدى عواصم العالم النابضة بالحياة.
في واحدة من أكبر مدن أمريكا، أصبح زهران ممداني، الفائز بترشيح الحزب الديمقراطي لرئاسة بلدية المدينة، صوت غزة الذي لا يمكن إسكاته. ممداني، الاشتراكي المسلم من أصل أوغندي هندي، كسب دعمًا كبيرًا من الأجيال الشابة بفضل دعمه الصريح لفلسطين وموقفه الثابت ضد الإبادة الجماعية في غزة.
لقد حقق انتصارًا ساحقًا على مرشحي النخبة في الحزب، بمن فيهم من دعمهم الحاكم السابق أندرو كومو. هذا الانتصار ليس مجرد تفوق سياسي، بل هو انتصار للضمير.
لم يتمكن اللوبي الصهيوني، الذي حشد كل قوته وأنفق ملايين الدولارات لإسقاط ممداني، من وقف صعوده أو إخفاء التحول في توجهات الضمير الشعبي. لأنه لم يعد مجرد مرشح؛ لقد أصبح تجسيدًا لـ «البحث عن العدالة» الذي يتنامى على يد شعوب العالم في صمت.
لكن هذا النجاح جلب معه تهديدات خطيرة. فشل اللوبي الصهيوني في وقف صعود ممداني حتى في نيويورك، التي تعتبر قلب هذا اللوبي، زاد من التكهنات بأن هذه القوة ستحاول كل السبل لوقف ممداني، حتى لو كان الثمن تسليم المدينة إلى الجمهوريين. حتى أن هناك من يتحدث عن احتمال تخطيط اليمين المتطرف لاغتيال ممداني. لأنه، بموقفه المؤيد لفلسطين، وهويته كمهاجر مسلم من الأقليات، أصبح كابوسًا للأوساط العنصرية المعادية للإسلام والصهيونية في أمريكا. لكن على الرغم من كل هذه التهديدات، يُقال إن ممداني لن يتراجع، بل سيعزز نضاله أكثر.
هذا الشاب البالغ من العمر 33 عامًا فقط، هو ممثل وينحدر أيضًا من عائلة مثقفة عريقة. والده، المفكر المسلم المعروف البروفيسور محمود ممداني، ترك بصمات عميقة في العالم الأكاديمي بمؤلفاته حول الاستعمار والسياسة الأفريقية والطبيعة السياسية لإنتاج المعرفة. شغل منصب مدير معهد البحوث الاجتماعية في جامعة ماكيريري في أوغندا من 2010 إلى 2022، وألف العديد من الكتب المهمة.
أما والدته ميرا ناير، فهي مخرجة سينمائية ذات مكانة قوية في السينما العالمية. فازت بجائزة «الأسد الذهبي» في مهرجان البندقية السينمائي عن فيلمها «زفاف موسون»، لتصبح أول امرأة تحقق هذا الإنجاز. نشأ زهران ممداني في هذه البيئة الفكرية، وهو يحمل إرثًا قويًا سياسيًا وثقافيًا.
إذا فاز الرجل بالانتخابات، فسيكون أول عمدة مسلم من أصل هندي لنيويورك. هذا ليس مجرد إنجاز كونه الأول من نوعه، بل يظهر أيضًا تأسيس تحالف بين الطبقة الوسطى المسلمة في أمريكا ومجتمعات المهاجرين مع الجناح الاشتراكي في الحزب الديمقراطي. خاصة في مدينة مثل نيويورك، التي يبلغ عدد سكانها اليهود حوالي مليون نسمة وتعتبر حيوية للوبي الصهيوني، فإن فوز ممداني في الانتخابات التمهيدية هو نقطة تحول تاريخية تكشف عن هشاشة هذه البنية.
في الختام، لم تعد غزة مجرد مدينة، بل أصبحت المكان الذي ولد فيه الضمير العالمي من جديد. وانتصار ممداني في نيويورك ليس مجرد نجاح سياسي، بل هو صرخة ضمير الإنسانية المتعب من الصمت.
هذا التحول الذي بدأ في أمريكا هو نذير بصحوة تمتد من أوروبا إلى إفريقيا، ومن آسيا إلى أمريكا اللاتينية.
في الواقع، تظهر استطلاعات الرأي هذا التحول: بينما وصلت موجات التعاطف مع إسرائيل إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق، بلغ الدعم لفلسطين أعلى مستوى له منذ عام 2001.
نعم، العالم يتغير الآن. وبوصلة هذا التغيير هي غزة. وزهران ممداني هو أحد الرواد الأوائل لهذا العالم الجديد الذي تشير إليه هذه البوصلة.