اخبار تركيا
تناول مقال تحليلي للكاتب والصحفي التركي سليمان سيفي أوغون، البنية الذهنية للعالم الحديث التي تأسست على التشييء والعقلنة الة بديناميات تراكم رأس المال، حيث جرى نزع البعد الإنساني والأخلاقي من الاقتصاد والسياسة والعلم والمجتمع، ليُعاد تعريف كل شيء وفق مقتضيات الربح والهيمنة.
يُظهر الكاتب في مقاله بصحيفة يني شفق كيف جرى تجميل هذه الوحشية عبر خطاب “الحضارة” و”الحقوق” و”الديمقراطية”، بينما هي في جوهرها نتاج مباشر لنهب واستعمار وإقصاء.
ويربط بين صعود الفاشية والنازية كأقنعة سقطت في أزمات الغرب السابقة، وبين المشهد الراهن في غزة بوصفه الذروة القصوى لهذا المسار، حيث يُمارَس التهجير والإبادة تحت مسمى “السلام” و”إعادة الإعمار”، ما يكشف الوجه الحقيقي للرأسمالية الغربية التي ستواجه في النهاية مصير النازيين.
وفيما يلي نص المقال:
تشكلت البنية الذهنية للعالم الحديث على أساس رغبة محمومة في تحويل كل شيء إلى موضوعٍ قابل للتشييء. ويكمن في الخلفية المادية لهذه الظاهرة بلا شك ديناميات تراكم رأس المال التي تحرّكها آليات العمل الرأسمالي.
إنّه عالم منزوع تمامًا من المشاعر الإنسانية، خالٍ من أي عائق أخلاقي يمكن أن يوقفه. في هذا العالم كل شيء معزول إلى أقصى الحدود، مُختزل إلى ذاته، متحوّل إلى غايةٍ قائمة بذاتها. فالاقتصاد مثلًا لم يعد له غرض سوى ذاته. ومفهوم تعظيم الربح يجسد هذا المعنى بالضبط. وكما عبّر الاقتصادي الراحل أندريه غورز، فإن لكل شيء في الاقتصاد قيمة تبادلية، غير أنّ الاقتصاد نفسه لا يملك قيمة تبادلية.
لقد تشكلت جميع بُنى العالم الحديث وفق هذا المبدأ. والاسم الفلسفي لهذا المبدأ هو العقلانية. وقد طوّر ديكارت ولايبنتز وغيرهما من الكارتيزيين هذا المبدأ بعمق. ولم يتوقف الأمر عند الفلسفة، بل نجد انعكاساته في الممارسة العملية، مثل البيروقراطية.
وكما شرح المؤرخ ماكس فيبر بإسهاب على المستوى النظري، فإن طريقة عمل البيروقراطية الحديثة تقوم على نزع أي شعور أو اعتبار أخلاقي، والتركيز فقط على المهمة بحد ذاتها، والعمل على إنجازها بأقصى درجة من الإتقان. فالموظف البيروقراطي الحديث يشيّئ عمله ويؤديه في دائرة عقلانية صارمة.
أما السياسة الحديثة فقد قامت على أساس التجرّد من أي هموم أخلاقية، وحصرها في إطار تُعظَّم فيه المصالح. وهذا ما يُعرف، كما هو معلوم، باسم الواقعية السياسية، حيث تُهمَل الاعتبارات الأخلاقية.
والعلم الحديث بدوره نال نصيبه من هذا المنهج. فقد رُفِع مبدأ الموضوعية إلى مرتبة عليا. فالعالِم الحديث لا يدخل مشاعره إلى مختبره، والطبيعة والأشياء تُختزل بكليتها إلى ماديتها الموضوعية. لكن الأخطر من ذلك كان تطبيق هذا المنهج نفسه على العلوم الإنسانية. إذ يمثل جزء كبير من التراث الفكري للعلوم الإنسانية الحديثة تجسيدًا لهذا التوجه.
فميلاد علم الاجتماع الحديث مثلًا ارتبط بعملية مكثفة من إقصاء البعد الإنساني عن المجتمع، حيث جرى تعريف المجتمع بما يتناسب مع مقتضيات الرأسمالية: تقسيمٍ للعمل ووظائفٍ محددة، بعيدًا عن إنسانيته الكاملة.
ومن زاوية أخرى، يقوم أحد ديناميات تراكم رأس المال على الاستيلاء على ممتلكات الجماهير الواسعة، وتجريدها من ملكياتها، وجمع الثروات العالمية في شبكة ملكية تحتكرها قلة. ومن أجل إنجاح هذا التراكم، كان القضاء على صغار الفلاحين والملكيات الصغيرة أمرًا جوهريًا. وعلى الصعيد العالمي تجسّد ذلك في الاستعمار، وفي مرحلته الأخيرة: الإمبريالية.
حتى هذا القدر من التلخيص يكفي لإظهار مدى وحشية العملية الرأسمالية. غير أن تنظيم هذه الوحشية ليس بالأمر اليسير، إذ لا بد من تجميلها وإظهارها بغير حقيقتها. ويُطلق على هذه العملية في النظريات الاجتماعية اسم التجميل. غير أنني أرى، ككاتب هذه السطور، أنّ هناك تعبيرًا أعمق استُعير من علم اللاهوت، وهو المعمودية.
إذ يستدعى هنا الرمز المسيحي، فيُقدَّم النهب والسلب على أنّه عملية تعميد تُضفي على التراكم طابعًا حضاريًا. وهكذا يجري إنتاج الهيمنة عبر وهم اسمه الحضارة. فنهب الأمريكتين، مثلًا، لم يُعرض كنهب، بل كجهود “تضحية” من العالم المتمدّن لنقل الحضارة إلى شعوبٍ “متوحشة ومتخلفة”.
ويقوم أصحاب التراكم الرأسمالي أيضًا بتوظيف جزء منه لرفع مستوى الرفاه في مجتمعاتهم، ليتحوّل هذا الرفاه إلى راية يرفعونها. وقد كتبت مرارًا في هذه الزاوية أن هذا الأمر يرتبط مباشرة بعملية إعادة التوزيع، وأن القيم التي تتباهى بها الحضارة الغربية كحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والديمقراطية ترتبط بذلك.
فحين يقدمون أنفسهم إلى العالم، يُطمَس النهب، ويُشار إلى هذه القيم بوصفها جوهر الحضارة الغربية. والحقيقة أنّ هذه القيم ة بالنهب ارتباطًا مباشرًا. وهي في جوهرها ليست سوى ستارٍ قد يتحول أحيانًا إلى أفيونٍ يضلل بعض المثقفين السذّج. لكن ما إن تبدأ الأزمات العميقة في تطويق هذه المجتمعات حتى يكونوا أول من يتخلّى عن تلك القيم. نعرف جميعًا أن هدية الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1929 كانت النازية والفاشية ونظائرهما. والنازية لم تكن سوى وجه الغرب بعد إزالة المساحيق.
ومع ذلك قيل إن الأمر مجرد حادث عابر لن يتكرر، وسرعان ما لجأوا إلى اللاهوت مجددًا و”تطهّروا” من ذنوبهم. لكن الأزمات التي نعيشها اليوم تعيد إنتاج المشهد ذاته. ففي “أوروبا المتحضرة” و”أرض الحرية” الأمريكية نرى صعودًا لا يُوقف لليمين المتطرف، وتفككًا في دعائم الديمقراطية، وعجزًا في المؤسسات التي يُقال إنها “متحضرة”. إنّ قناع الغرب يتساقط، ويظهر وجهه الحقيقي بكل قبحه.
وما يحدث اليوم في غزّة هو الذروة القصوى لهذا المسار. ففي الحرب العالمية الثانية كان اليهود هم الذين جرى “تشييئهم”، واختيارهم كضحايا، إذ عُدّوا العائق الأكبر أمام نقاء العِرق الآري، فتمّت تصفيتهم لهذا السبب.
أما اليوم، فها هم ضحايا الأمس، وقد تعلّموا جيدًا ممارسة الظلم بعد أن ذاقوه، يطبقون في غزّة نفس الإبادة الجماعية التي أنزلها النازيون بهم. وكما وصف الوزير الإسرائيلي الفاشي، الفلسطينيون هم “كائنات حيوانية في هيئة بشر” وهي أوصاف كان النازيون قد أطلقوها عليهم من قبل ليُستباح دمهم في غزة. ثم يُقدَّم “مشروع غزة الجديدة” على أنّه ريفييرا متلألئة في شرق المتوسط، بينما يُمحى الغزيون من تاريخهم وثقافتهم وهويتهم وكرامتهم. إنّه تصميم وحشي يقتلع غزّة من أهلها اقتلاعًا، ويُسوَّق على أنّه “سلام”. لكنه سلام بلا بشر.
ولذلك فإنهم سيخسرون تمامًا كما خسر النازيون في زمانهم. قد لا يحدث ذلك اليوم، لكنه سيحدث عاجلًا أم آجلًا. ففي عامي 1942 و1943 كان الجميع يظن أن النازيين لا يمكن إيقافهم. لكن النتيجة معروفة. لقد أتقنوا ممارسة الظلم بعد أن ذاقوه، غير أنهم أهملوا الدرس الأخير: مصير النازيين. وسيُضطرون هم أيضًا لتعلّم هذا الدرس بالمعايشة والتجربة…