اخبار تركيا

سورة الكهف ومنصّات الإقلاع الحضاريّ

د. عطية عدلان الجزيرة مباشر

من المؤكد أنّ سورة الكهف مكيّة، ومن المرجح أنّها مكيّةٌ كلُّها وأنّها نزلت جملة واحدة، وممّا هو جدير بالذكر هنا أنّها من أواخر ما نزل في مكة، وهذا يعني أنّها نزلت في سياق إعداد الأمة الإسلامية الوليدة لمرحلة جديدة؛ فعمّا قريب ستقع الهجرة، وستكون منطلقَ التمكين الحضاري القائم على الإيمان والتوحيد، وسيتبعها بناء المجتمع السياسيّ الرشيد، وإقامة أركان دولة العدل والحقّ، ثم الانطلاق في الآفاق بالدعوة والبيان ثمّ بالسيف والسنان؛ من أجل تحرير الإنسان من الطغيان، وتعريفه بربّهِ الرحمن؛ فكيف جاء التمهيد والتوطيد لهذه الانطلاقة العملاقة ولهذا الإقلاع الوثّاب؟ وما هو الدور الذي قامت به سورة الكهف؟ ما هي منصّات ومُنطلَقات الانبعاث الحضاريّ الإسلاميّ؟

لم يكن الخضر أعلم من موسى بشريعة التوراة التي بُعث بها، ولو كان موسى يجهل من أمر دينه شيئًا لعاد به إلى مصدره؛ فهو كليم الله ورسولُه الذي يوحي إليه، وإنّما كان الخضر أعلم من موسى في تخصص دقيق عميق، ربما كان في زاوية ضبط العلاقة بين الأمر الشرعيّ والأمر القدريّ، وهي زاوية تحتاج علمًا من غير طريق الرسالة، وهنا يتجلّى مبدأ التخصصيّة واحترام التخصّصات، فالأمة الإسلامية وإن كانت أعلم من كلّ الأمم بموضوع الرسالة وتفاصيل المنهج الربّانيّ فإنّها بحاجة فيما هو خارج هذا النطاق إلى الاستفادة من الآخرين، بما لا يعود على المنهج بالنقض أو النقص، هذا درس كبير في المنهجية العلمية، يأتي في سياق القصة محفوفًا بجملة من الدروس المنهجية كالرحلة في التماس العلوم من مظانّها، وآداب التلمذة، والحرص والدأب والصبر والمثابرة وطول النفس.

وقد جاءت قصة صاحب الجنّتين في سورة الكهف؛ لترسيخ قيمة جوهرية مخالفة تمامًا للقيمة الجوهرية في الحضارة المعاصرة، فالقيمة الجوهرية في منظومة القيم الحداثية هي الدنيوية، أمّا في الإسلام فإنّ الإنسان له من هذه الدنيا نصيب، لكنّ الدنيا ليست سوى مزرعة للآخرة، ومع ذلك فإنّ سياق القصّة اشتمل على أحد ملامح المنهجية العلمية، فقد سمى السياق ما دار بينهما حوارًا: {فَقالَ لِصاحِبِهِ ‌وَهُوَ ‌يُحاوِرُهُ}، {قالَ لَهُ صاحِبُهُ ‌وَهُوَ ‌يُحاوِرُهُ}، لكن انظر إلى المقدمات التي بنى عليها كلٌّ منهما تصوراته، فأمّا الكافر الذي أنعم الله عليه بهاتين الجنتين الباهرتين فقد بنى تصوراته ومن ثمّ أقام حواره على مقدمات هشّة غير متماسكة، جميعُها مبنيّة على الظنون، بينما المؤمن بنى على الحقائق المحكمة الثابتة: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}، وهي سلسلة متصلة من الحقائق التي يُبني بعضها على بعض، والتي تثمر في النهاية ضرورة التسليم للخالق، وضرورة أن يكون الإنسان مسؤولا عن أعماله في يوم يقوم فيه الحساب العادل ولا مكان فيه لمحاباة الأثرياء ولا الوجهاء.

وتكثر في السورة الكريمة ملامح المنهجية العلمية، وتنبثّ بين ثنايا القصص بشكل لافت للنظر، لكنّ أشدّ هذه الملامح ظهورًا هو عدم بناء التصورات أو حتى القرارات على الخرص والرجم بالغيب دون تحقُّقٍ يقوم بسلطان البرهان، فتأمّل: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ}، {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ}، {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ}، {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ}، {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا}، فلا يصحّ في منهج العلم والنظر المسارعة إلى إثبات شيء أو نفيه والنفي هنا كالإثبات سواء بسواء إلا بعد قيام الدليل على الإثبات أو النفي؛ لذلك يُعَدُّ دعاة الإلحاد مخالفين لأبسط قواعد المنهج العلميّ؛ لأنّهم سارعوا إلى نفي وجود الله بلا برهان، فإنّهم ولو فرضنا أنّهم يفتقدون الدليل على وجود الله لا يملكون الدليل على عدم وجوده، فهم إذَنْ واقعون في وصف “الجلافة المنهجية” بكل ما تقوم عليه من مكابرة ومجازفة وتجديف.

يتجلّى في قصة ذي القرنين الملك المسلم الذي بلغ غاية التمكين ثلاثة أبعاد للتمكين الحضاري الشامل الكامل، الأول: البعد العمرانيّ بعناصره الثلاثة (الجغرافي والديموغرافيّ والرساليّ)، فقد انطلق شرقًا وغربًا وشمالا وجنوبًا، ولامس بدعوته ورسالته أهل المشرق وأهل المغرب وأهل السدّين، والبعد الثانيّ هو البعد العلميّ التقنيّ: فقد تمكن من بناء السدّ بطريقة صناعية متقنة، حيث قام برصف قطع الحديد حتى بلغ بها قمة الجبلين ثم صبّ عليه النحاس المذاب: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}، أمّا البعد الثالث فهو البعد القِيَميّ، وقد تجلى هذا البعد في قيمتَي العدل والرحمة، العدل الذي يفرق بحزم بين الصالح والطالح: {قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذابًا نُكْرًا. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْرًا}، والرحمة التي تمتد بالعون ولا تضنّ بالمدد: {قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}، فلم يستثمر قوته في ابتزاز ثرواتهم، وإنّما أعانهم.

هذه القيم التي سبقت الإشارة إليها ليست مجرد قيم متناثرة، وإنّما هي منظومة قيمية متماسكة متكاملة، ففي سياق السورة وردت قيم محورية تشدّ إليه المنظومة كلّها، ففي البعد الإنساني: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، وفي البعد الإلهيّ الربانيّ: {وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهًا لَقَدْ قُلْنا إِذًا شَطَطًا}.

عن الكاتب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *