صراع الغرب (2)
google_ad_slot = “5416840538”;
google_ad_width = 300;
google_ad_height = 250;
سليمان سيفي أوغون يني شفق
عكست الصورة الأوروبية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية هيمنة مركز قوة جديد يمكن وصفه بـ”الأنغلوأمريكي”. أدركت بريطانيا أنها لم تعد قادرة على الحفاظ على سيطرتها العالمية بمفردها، ولذلك دخلت في شراكة مع الولايات المتحدة، التي تربطها بها علاقات تاريخية عميقة. ومع ذلك، لا يبدو أن البريطانيين كانوا راضين تمامًا عن هذا الوضع. فرغم الروابط العميقة والعلاقات الوثيقة بين الجانبين، كانت هناك اختلافات جوهرية لا يمكن تجاهلها. ولكن لم يكن لديهم خيار آخر.
كان البريطانيون، الذين يتمتعون بتقاليد أرستقراطية راسخة، ينظرون إلى الولايات المتحدة كقوة “خشنة”، بل وأحيانًا “ساذجة” بعض الشيء. لطالما لفت انتباهي كيف تصور الفكاهة البريطانية الرقيقة صورة الأمريكيين. فالبريطانيون يسخرون بلطف من اللغة الإنجليزية التي يتحدثها الأمريكيون، ومن العقلية والسلوك الأمريكيين بشكل عام. هم على دراية بأن العقلية الأمريكية غالبًا ما تفتقر إلى رؤية عميقة للعالم، حيث تقتصر على قواعد بياناتها ومعلوماتها الخاصة. على النقيض، يعتقد البريطانيون أنهم يمتلكون فهمًا واسعًا ومعرفة عميقة بالشؤون العالمية.
صحيح أن القوة كانت ولا تزال بيد الولايات المتحدة، لكن البريطانيين يدركون أن هذه القوة لا معنى لها دون العقل البريطاني. بل إنهم تعلموا استغلال هذا الاختلاف كميزة لصالحهم. ومع انسحابهم التدريجي من المسرح العالمي، أتقن البريطانيون فن تحميل الولايات المتحدة المهام القذرة بينما يضمنون لأنفسهم نصيبًا كبيرًا من الفوائد. لكن من الواضح أن السيطرة على شريكهم الأمريكي لم تكن دائمًا مهمة سهلة.
من أبرز الأمثلة على هذا التوتر حادثة السويس، حيث أعتقد أن “الصفعة” التي تلقاها البريطانيون من “راعي البقر” الأمريكي تركت أثرًا عميقًا في ذاكرة الدولة البريطانية العميقة.
تعرضت أوروبا القارية لعقوبة شديدة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تحولت ألمانيا بشكل خاص إلى ما يشبه “حمار العمل”. (ما حدث لليابان في المحيط الهادئ كان مشابهًا). أصبح على أوروبا أن تعمل بجنون وتنتج، بينما يقوم المحور الأنغلوأمريكي بشراء هذه المنتجات واستهلاكها مقابل أوراق نقدية تسمى “الدولار”.
كان هذا النموذج في الأساس يعبر عن استهتار أمريكي، حيث وثقت الولايات المتحدة بمنتجاتها بشكل كبير واعتقدت أن المنتجات الأوروبية لن تنافس معاييرها. لكن النتيجة جاءت عكس ذلك تمامًا. فبعد أن تخلصت ألمانيا من عبء الإنفاق على التسليح، تمكنت من تحقيق معايير عالية في الإنتاج، خاصة في قطاعي الصناعات الميكانيكية والكيميائية، مما منحها حصة كبيرة في الأسواق الأمريكية. وفي مجال السيارات، تمكنت ألمانيا من إحداث تأثير كبير لدرجة أنها أضعفت مدينة ديترويت، التي كانت تعد مركز صناعة السيارات الأمريكية. (وقد فعلت اليابان الشيء نفسه في هذا المجال).
ابتداءً من الخمسينيات، بدأت ألمانيا بالتعاون مع فرنسا تدريجيًا لتأسيس الاتحاد الأوروبي. ومن خلال منطقة اليورو، استطاعوا إنشاء خط دفاع مالي ضد هيمنة الدولار. ومع حلول التسعينيات، بدأت إنجازات أوروبا تُثير القلق لدى المحور الأنغلوأمريكي، خصوصًا في بريطانيا.
كان التطور الأكثر إثارة للقلق يتمثل في استفادة ألمانيا من سياسات “التخفيف” واستغلال علاقات الاتحاد الأوروبي مع أوراسيا، وخاصة العلاقات مع روسيا في مجال الطاقة. تشير “عقيدة برانت” إلى هذا الاتجاه بوضوح، حيث كانت ألمانيا تسعى إلى تقليل اعتمادها على مصادر الطاقة في الشرق الأوسط، التي تسيطر عليها بريطانيا.
بعد سقوط جدار برلين، وسّعت ألمانيا نفوذها في شرق أوروبا والبلقان، وبدأت في البحث عن سبل للتقارب مع الصين، التي كانت نجمتها الاقتصادية الصاعدة عبر روسيا.
إن سياسات الاتحاد الأوروبي للانفتاح شرقًا أزعجت المحور الأنغلوأمريكي إلى حد كبير. لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت إعلان صدام حسين، ومن بعده معمر القذافي، إمكانية بيع النفط باليورو بدلاً من الدولار. عندها، حان الوقت لاتخاذ إجراء حاسم.
تحركت بريطانيا، بالتعاون مع الولايات المتحدة، مستندة إلى نفوذ فريق “المحافظين الجدد” الذي برز أولًا بين الجمهوريين ثم اكتسب هيمنة داخل الحزب الديمقراطي. أسفرت هذه السياسات عن تدمير العالم العربي وإغراقه في الفوضى. ثم جاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تلاه إعلان “عقيدة بريطانيا العظمى”، كخطوات متتابعة تهدف إلى تعزيز المصالح الاستراتيجية البريطانية بعيدًا عن الاتحاد الأوروبي.
كانت بريطانيا ترى أن التقارب بين أوروبا، وخاصة ألمانيا، وأوراسيا، ممثلة بروسيا، أمر غير مقبول على الإطلاق. لذلك، وقع الاختيار على أوكرانيا لتكون مسرحًا للصراع. وتشير التقديرات إلى أن الحرب الروسيةالأوكرانية اندلعت نتيجة تحضيرات مشتركة يُعتقد أن جهاز الاستخبارات البريطاني نفذها بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.
ساهمت الولايات المتحدة، تحت قيادة الرئيس جو بايدن وهيمنة فريق “المحافظين الجدد” داخل الحزب الديمقراطي، في دعم هذا المشروع بقوة. فرضت واشنطن سيطرتها على أوروبا من خلال هذه الأزمة. وتم تفجير خط أنابيب “نورد ستريم”، ما أدى إلى عزل روسيا وتحويلها إلى عدو مشترك. بهذه الخطوات، تم تدمير المحور الأوروبيالأوراسي بالكامل.
على الجانب الآخر، برز ترامب، بشخصيته المناهضة للعولمة ونهجه الذي يعكس “روح الكاوبوي” الأمريكية، كمشكلة جادة للمحور الأنغلوأمريكي. وظهرت اختلافات واضحة بين أولوياته وأولويات بريطانيا. فقد ركز ترامب على إنهاء الحرب الروسيةالأوكرانية بشكل عاجل لتحويل الانتباه والجهود نحو المحيط الهادئ لمواجهة الصين، معتبرًا أن الصراع في أوروبا يستهلك موارد الولايات المتحدة بشكل غير ضروري.
وتتعارض رؤية ترامب مع الطموحات البريطانية التي تسعى لاستمرار اللعبة التي بدأتها، بهدف إضعاف روسيا إلى أقصى حد. في المقابل، يروج ترامب لخطة “باكس أمريكانا” (السلام الأمريكي)، وهي رؤية تهدف إلى فرض سلام أمريكي بين أوروبا وأوراسيا. لكن هذه الخطة لا تتماشى مع أهداف بريطانيا التي ترغب في استمرار سيطرتها على مسار الأحداث وإبقاء روسيا تحت الضغط المطلق.
تعكس هذه التطورات تضارب المصالح بين الحليفين التقليديين، وتكشف عن خلافات جوهرية في إدارة الصراعات العالمية.
ظهر الشرخ الثاني من خلال الأزمة السورية وتأثيرها في الشرق الأوسط. السؤال المطروح هو: هل يستطيع ترامب، المعروف بتأييده المطلق للصهيونية، أن يضع حدًا لنتنياهو الذي تحركه طموحات توسعية واضحة، والذي لن يتوقف حتى تُرسم الخرائط التي يريدها ويتم فرضها في المنطقة؟
أما بريطانيا، فهي تسعى لتحقيق “سلام بريطاني” (Pax Britanica) في الشرق الأوسط. سوريا تُعتبر حجر الزاوية في هذا المشروع، إذ تهدف بريطانيا إلى جعل أوروبا تعتمد بشكل كامل على موارد الطاقة في الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط. كذلك، تطمح إلى ربط إسرائيل المستقرة بالهند، وتحقيق الاستقرار في سوريا والعراق ومنطقة الخليج، وربطها بتركيا عبر مشاريع مثل “طريق التنمية” الذي تسعى إلى تنفيذه بأسرع وقت ممكن.
يتمحور مشروع السلام البريطاني “Pax Britanica” حول إقصاء النفوذ الإيراني من اللعبة الإقليمية، مع السعي لتحقيق اندماج بين العوالم العبرية والعربية والتركية. ومع ذلك، يبقى السؤال: هل تمتلك بريطانيا الصيغ المناسبة لإقناع جميع الأطراف؟ يبدو أن المهمة شاقة للغاية، على الرغم من معرفتنا بمرونة بريطانيا وقدرتها على تبني نهج براغماتي.
إذا وقعت سلسلة من الأحداث غير المتوقعة وأُجبر مشروع السلام البريطاني “Pax Britanica” على الإلغاء أو التأجيل أو حتى التعديل الجذري، فإن ذلك سيؤدي بلا شك إلى سقوط بعض الأطراف خارج اللعبة. في هذا السياق، يبدو أن التحديات أمام بريطانيا كبيرة، وسيكون عليها العمل بذكاء لإدارة هذه التحولات دون خسائر كبيرة.
أتوقع أنه خلال عام 2025 وما يليه قد تظهر شروخ بين أولويات بريطانيا وأولويات الولايات المتحدة داخل المحور الأنغلوأمريكي. (ورغم ذلك، لديهم القدرة على التوصل إلى تفاهم في النهاية).
على الجانب الآخر، لا يزال مستقبل أوروبا، التي سحقتها التطورات الأخيرة، مجهولًا. لكن ما نعرفه هو أن المنافسة بين القوى الغربية مستمرة وتتخذ أبعادًا جديدة.
حاليًا، يركز الجميع بشكل كبير على سوريا. في هذا الصراع، يبرز التحالف الثلاثي بين تركيا وبريطانيا وقطر كقوة متصاعدة. لكن في المقابل، هناك كتلتان أخريان:
الدول العربية في الخليج ومصر، التي تشعر بالقلق من هذه التحولات.
الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتان ما زالتا تحتفظان بورقة الأكراد بقوة.
الصراع بين هذه القوى لا يزال مستمرًا.
إن ما سيحدث في منطقتنا خلال عام 2025 وما بعده لا يمكن فهمه دون النظر إلى المنافسة، والتوترات، واختلاف الأولويات بين القوى الغربية.