اخبار تركيا
سلط الكاتب والمحلل التركينيدرت إيرسانال، الضوء على التصعيد الحاد في العلاقة بين إيران وإسرائيل، في ضوء فشل المفاوضات النووية الأمريكيةالإيرانية، وتحول الجمود الدبلوماسي إلى ضربة عسكرية إسرائيلية مركزة استهدفت البنية التحتية العسكرية والاستخباراتية في طهران.
وحلل الكاتب في مقال بصحيفة يني شفق أبعاد هذا الهجوم من زاوية الانهيار الداخلي في منظومة الأمن القومي الإيراني، ودلالاته السياسية والاستراتيجية، مشيرًا إلى تشابه في النمط مع الهجوم الروسي على أوكرانيا.
كما ناقش دور واشنطن في التمهيد للهجوم، وانعكاسات الضربات على مستقبل النظام الإيراني، وخيارات تغييره، إلى جانب صمت موسكو وبكين، والتأثير المحتمل على التوازنات الإقليمية. وفيما يلي نصالتقرير:
كان من المقرر أن تعقد الجولة الجديدة من المفاوضات النووية الأمريكية الإيرانية يوم الأحد في سلطنة عمان. لكن يومي الأربعاء والخميس، أعلنت واشنطن عن “وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، وأن التقدم بات صعبًا”. وعلى الفور، بدأت التحذيرات تتدفق، مما دفع الأوساط الأمنية في المنطقة إلى حالة تأهب مشوبة بالتردد.
وأوضح مؤشّر على ذلك كان تحذير الموظفين غير الأساسيين وعائلاتهم في البعثات الدبلوماسية الأمريكية بالمنطقة بضرورة المغادرة. أي أنه قبل الهجوم الإسرائيلي، كان هناك مؤشران واضحان: جمود المفاوضات وإعلان الإخلاء. ويوم الخميس، وردت أنباء عن توجه قائد القيادة المركزية الأمريكية إلى تل أبيب، تلتها أنباء عن إلغاء الزيارة. وكانت هناك حركة غير اعتيادية، لكن لم يتوقع أحد هجومًا بهذا الحجم.
وبعد ذلك، صدرت تصريحات الرئيس ترامب، وسرعان ما تعززت قناعة بأن هجومًا وشيكًا على إيران أصبح قاب قوسين أو أدنى.
لكن حتى ذلك الحين، كان يُنظر إلى عملية التفاوض بين إيران والولايات المتحدة منذ انتخاب ترامب على أنها محاولة لبناء مسار جديد، وكانت التقييمات أو لنقل الآمال بشأن ذلك لا تزال تتصدر المشهد.
وينبغي أن نُقرّ أولاً بأنّ الهجوم الإسرائيلي، من منظور القانون الدولي والمنظور الأخلاقي، هو اعتداء غير مشروع بالكامل ولا يمكن تبريره بأي حال. وفي هذا السياق، فإنّ تقييم وزارة الخارجية التركية بأنه “امتداد لخطة إسرائيلية لزعزعة الاستقرار الاستراتيجي في المنطقة” يعدّ توصيفاً دقيقاً ومناسباً.
ورغم أن أنقرة لديها الكثير من الملفات العالقة مع طهران، ما زال معظمها قائمًا، إلا أن موقفها في هذه المسألة كان صائباً.
ورغم أن واشنطن أبلغت طهران، قبل 24 ساعة من الهجوم، باحتمال شنّ عملية عسكرية ـ بما في ذلك معلومات عن إبلاغ ترامب لنتنياهو بعدم رغبة أمريكا في الهجوم ـ إلا أنّ هذا القدر من الشلل الذهني والجسدي الذي أصاب القيادة الإيرانية لا يمكن تبريره باعتباره مجرد لحظة سهو عابرة. لقد بات واضحاً أنّ ثمة شللاً فعلياً في فهم وممارسات الأمن القومي الإيراني، وهو أمر لا يمكن تفسيره سوى بوجود حالة من “التحلّل البنيوي”.
وعلى الصعيد العسكري بغض النظر عن مدى ضعف القوات الجوية لأي بلد، فإن عدم قدرتها على التحرك تقريبًا يُشير إلى أزمة داخلية لا خارجية. وهذا بالضبط هو مكمن “التحلّل” الذي يجب الوقوف عنده.
ومن هنا، لا يمكن اختزال الأمر في “سقوط هيبتها”، بل نحن أمام انهيار كيان الدولة الإيرانية ذاتها.
لا بد أن نلجأ إلى بعض المقارنات وإن كانت الظروف غير متطابقة تمامًا فلو كان ما وقع حربًا برية، هل كنّا سنشهد مشهدًا مشابهًا لسقوط دمشق خلال يوم أو يومين؟
لقد تسبّبت ضربات كييف التي تلقت دعماً من أوروبا في إضعاف هيبة روسيا، غير أن ما حدث في إيران يتجاوز ذلك. ولكن ثمة تشابه سياسي وشكلي واضح بين الحالتين: في الأولى كانت كييف تمثل القوة الوكيلة، وفي الثانية إسرائيل تؤدي هذا الدور. وفي كلتا الحالتين، تم تعليق المفاوضات خلال أيام معدودة، وكانت إسطنبول وعُمان هما الوسيطتان. وفي كلتا الحالتين، تحدثت الولايات المتحدة عن “انسداد، وصعوبة في التقدّم، وبلوغ حالة من العناد المتبادل”. ونستحضر هنا تصريح ترامب الشهير: “لقد سئمت من هذا الأمر”. وبناء عليه، تشير إحدى التفسيرات إلى أنها قد تكون “عملية كسر للجمود”. فالهجوم الإسرائيلي، كما حدث في أوكرانيا، يجمع بين أوجه تشابه تقنية وسياسية، ما يجعل الحدثَين يحملان دلالات عميقة.
لقد أدركت روسيا عواقب الانسحاب، لذا لم تنسحب من مفاوضات إسطنبول. أما إيران، فقد انسحبت من تلك المفاوضات، وقد تركت الباب مواربًا للعودة، لكنها تراجعت. وبذلك أصيبت مبادرة روسيا التي كانت تطمح لدعم مسار تطبيع العلاقات بين واشنطن وطهران بنكسة. ولا يمكن إغفال الصمت المريب الذي ساد في موسكو وبكين، ما عدا بعض الإدانات الشكلية العابرة.
ورغم تصريح وزير الخارجية الأمريكي روبيو: “لم نشارك في الهجوم، ومن الأفضل لإيران ألا تجرّنا إليه”، إلا أنه لا شك في أن أمريكا مهدت الطريق لإسرائيل وقدمت لها دعماً استخباراتياً ولوجستياً. كما أن تصريح إدارة ترامب: “إذا حدث هجوم، سنحمي إسرائيل وأنفسنا” يحمل دلالة واضحة. ولو حدث ذلك فستسقط طهران.
وإذا لم يحدث؟..
وهناك قضية محورية أخرى ففي المفاوضات النووية الإيرانية الأمريكية، أصرت إدارة طهران منذ البداية على أن شرطها بعدم “قبول تصفير نسبة تخصيب اليورانيوم في برنامجها النووي” يتعلق بسيادتها، وقد قابلت الإدارة الأمريكية هذا المطلب بمرونة في البداية، لكنها غيرت موقفها الآن وتصر على “التصفير الكامل”. ولكن ما نشهده اليوم هو تغيير جذري؛ إذ ارتفع سقف المطالب الأمريكية ليصل إلى حدّ المطالبة بـ”الإلغاء التام”، ومن الواضح أن إلغاء الإنتاج المحدود الذي كان تقريبًا الشرط الوحيد لإيران وتعتبره خطها الأحمر، جاء نتيجة ضغوط إسرائيل على البيت الأبيض، يبدو أن تل أبيب نجحت في التأثير على ترامب وسياسة أمريكا.
لننتقل إلى مسألة تغيير النظام في إيران..
أما في ما يتعلق بقضية تغيير النظام في إيران، فإن حجم الأهداف التي أصابتها الضربات الإسرائيلية، سواء كانت شخصيات بعينها أو مواقع عسكرية، يدفع الجميع للتفكير بأن تلك الضربات كان يمكنها أن تقتل النخبة الحاكمة في طهران، بمن فيهم الرئيس والمرشد الأعلى.
ولكنها لم تفعل.
كما كان بإمكانها استهداف وزير الخارجية أو الدفاع، لكنها لم تمسهما أيضًا.
وعوضًا عن ذلك، دمرت الجانب الأكثر قوة في النظام الإيراني: قمة الهرم في القوات المسلحة والحرس الثوري.
وبالطبع استهدفت الضربات أيضًا البنية التحتية النووية والعقول العلمية التي تقف وراءها، ولكن هذا يدخل في إطار الأهداف العسكرية لا السياسية. أما التركيز على أجزاء معينة من النظام، واستهداف شخصيات محددة، فيشير إلى وجود رؤية محددة حول شكل تغيير النظام وآلياته.
ويبقى هنالك تساؤل واحد: كيف سيتلقّى الشارع الإيراني هذه الحقائق؟ وكيف سيعيها ويتفاعل معها؟ في التجارب السابقة، لم تؤتِ هذه الاستراتيجية أُكلها. أما رغبة إسرائيل أو الولايات المتحدة في ذلك فهي موضوع آخر. فكلا العاصمتين تبديان نوعًا من الهوس حيال السؤال: “من البديل؟”. وينبغي أن نسأل عمّا إذا كانت واشنطن وتل أبيب ترغبان في بقاء جزء من النظام الإيراني، بل وفي تقويته.
وبمنظور أوسع: على الجميع أن يفكر في نهاية المطاف، في مسألة طبيعة القيادة التي ينبغي أن تحكم إيران في ظل الإدارة الأميركية الحالية، والتحوّلات الإقليمية وأقطاب التنافس العالمي.