د. مصطفى الستيتي خاص اخبار تركيا

مقدمة

تُمثل الوثائق العثمانية نافذة أساسيّة لفهم طبيعة العلاقات بين المركز العثمانيّ وإيالاته، إذ تكشف هذه النّصوص عن التفاصيل الدّقيقة التي غالبًا ما تغيب عن السّرديات العامة للتاريخ. وتُعد هذه الوثيقة التي بين أيدينا من تصنيف الخط الهمايونيّ، والصّادرة سنة 1246هـ/1830م، نموذجًا مهمّا لذلك، إذ تتناول مسألة تبدو للوهلة الأولى بسيطة وهي صناعة الشّاشية لكنها تحمل في طياتها دلالات اقتصاديّة وعسكريّة وسياسيّة عميقة.

إن أهمية الوثيقة تكمن في كونها تُظهر الدّور المركزيّ الذي اضطلعت به تونس باعتبارها مركزًا حرفيّا وصناعيّا داخل السّلطنة العثمانية، وكيف جرى توظيف مهارة حرفيّيها لخدمة مشروع تحديث الجيش العثمانيّ الذي كان السّلطان محمود الثاني يقوده في تلك الفترة.

الخلفيّة التّاريخيّة

منذ القرن السادس عشر، ارتبطت مدينة تونس بصناعة الشّاشية، حتى تحولت هذه الحرفة إلى رمز من رموزها الثّقافية والاجتماعيّة. فقد تميّزت الشّاشية التّونسية بجودتها العالية ودقة صناعتها، وأصبحت مطلوبة في الأسواق المحليّة والعثمانيّة والأوروبيّة.

في المقابل، كانت إستانبول، رغم امتلاكها بنية صناعيّة متقدمة نسبيّا، عاجزة عن إنتاج شاشية تضاهي نظيرتها التّونسيّة. ومع إصلاحات السّلطان محمود الثاني، خصوصًا بعد إلغاء الانكشاريّة سنة 1826م وتأسيس الجيش النّظامي، أصبح توحيد الزّي العسكري أولوية قصوى، وكان غطاء الرأس الشّاشية عنصرًا جوهريًّا في هذا الزي. وهكذا، برزت تونس كمورد لا غنى عنه، ليس فقط للمنتج النّهائيّ، بل أيضًا للخبرة البشريّة والفنّية التي تضمن استمرار هذه الصّناعة الحيوية.

مضمون الوثيقة

توضح الوثيقة أنّ القائد الأعلى للجيش (السّرعسكر) رفع تقريرًا إلى السلطان يبيّن فيه أن المحاولات السّابقة لإنتاج الشّاشية في إستانبول وبعض المناطق الأخرى لم تحقق النتائج المرجوة. وبناءً على ذلك، اقترح جلب الصناع التّونسيّين مباشرة إلى دار السّعادة لتولّي هذه المهمة. وتضمّنت الأوامر السّلطانية الصادرة ما يلي:

استقدام عدد من المتخصّصين (الأُسطوات) والعمّال التّونسيّين المهرة في فنون الحياكة والنّساجة والخياطة وصناعة الشّاشية، إلى جانب الحدادة والنجارة.

تكليف الباش حانبه مصطفى البلهوان بالإشراف على هؤلاء الحرفيّين وضمان جودة العمل.

إشراف ابن قبطان باشا، علي بك، على عمليّة النقل والتنظيم.

إلزام بيلارباي تونس، أي واليها حسين باشا بتسهيل المهمّة وإعداد العدد المطلوب من الصّناع.

تسجيل أسماء الصّناع والعمّال في دفاتر رسميّة ورفع تقرير مفصل عنهم عند وصولهم إلى دار السّعادة.

هذه العناصر تعكس أن الأمر لم يكن مجرّد مبادرة عابرة، بل خطة إداريّة وعسكريّة منظمة تهدف إلى إدماج الحرفة التّونسيّة في بنية الدّولة العثمانيّة المركزيّة.

الأبعاد الاقتصادية

تُظهر الوثيقة أن الاقتصاد العثمانيّ لم يكن قائمًا فقط على الضّرائب والتّحويلات الماليّة من الإيالات إلى المركز، بل شمل أيضًا توظيف الحرف المحلّية في خدمة الدّولة. فالشّاشية التّونسيّة لم تكن مجرد منتج حرفي مخصّص للسّوق، بل تحوّلت إلى عنصر استراتيجيّ في الاقتصاد العسكريّ.
ويبرز هنا بعدان مهمّان:

نقل المهارة: إذ لم تكتف الدّولة باستيراد الشّاشية جاهزة، بل استقدمت الحرفيّين أنفسهم لتعليم غيرهم وضمان استمرار الحرفة.
دمج الصنّاع في نظام الدولة: تسجيل أسمائهم في دفاتر الدّولة يشير إلى أنّ هؤلاء الحرفيّين لم يعودوا مجرد أفراد مستقلّين، بل صاروا جزءًا من الجهاز الإداريّ والعسكري للدّولة.

الأبعاد العسكريّة

كان إصلاح الجيش أحد أهم رهانات السّلطان محمود الثاني في مطلع القرن التاسع عشر. فبعد تفكيك الانكشاريّة، أراد السّلطان تأسيس جيش نظاميّ يعتمد على الانضباط والزّي الموحّد. في هذا السّياق، لم تكن الشّاشية مجرد غطاء رأس، بل رمزًا للهويّة العسكريّة الجديدة التي أرادت الدولة تكريسها.
وقد انعكس ذلك في الوثيقة من خلال التّعامل مع صناعة الشّاشية باعتبارها مسألة عسكريّة استراتيجيّة، تستحق أوامر سلطانيّة مباشرة ومتابعة دقيقة من كبار المسؤولين. فكلّ جندي في الجيش العثماني النّظامي كان يرتدي الشّاشية، مما جعل من توفيرها شرطًا أساسيّا لنجاح مشروع التحديث العسكري.

الأبعاد السّياسيّة

توضح الوثيقة طبيعة العلاقة بين المركز العثمانيّ وإيالة تونس، حيث يظهر البُعد السّياسي في شقين متلازمين:

السّلطة المركزية: الباب العالي يفرض أوامره ويحدّد ما ينبغي فعله بدقة، في صورة تؤكد تبعية تونس السّياسية.
الاعتماد المتبادل: في المقابل، يكشف النّص أن إستانبول كانت تعتمد بشكل جوهريّ على تونس لتأمين منتج استراتيجيّ، ما يعني أن العلاقة لم تكن أحادية الاتّجاه، بل تضمنت توازنًا يقوم على الطاعة السّياسية من جهة، والاعتماد الاقتصادي والعسكريّ من جهة أخرى.

خاتمة

إن هذه الوثيقة من الخطّ الهمايونيّ تمثّل شاهدًا ناطقًا على التّكامل بين الاقتصاد الحرفيّ التّونسيّ والمشروع العسكريّ العثمانيّ في مرحلة حساسة من تاريخ السّلطنة. فهي تكشف أن الحرف التقليديّة وفي مقدمتها صناعة الشّاشية لم تكن مجرّد نشاط محلّي، بل أداة من أدوات السّياسة العسكرية والإصلاحات الكبرى التي شهدها القرن التّاسع عشر.

ومن خلال هذه الوثيقة، يتّضح أن تونس لم تكن مجرّد ولاية تابعة، بل كانت شريكًا فاعلًا في تأمين متطلبات الجيش العثمانيّ، بما يبرز عمق التّداخل بين الأطراف والمركز داخل السّلطنة. كما تؤكد الوثيقة أنّ التّاريخ العسكري لا يُقرأ فقط من خلال الحملات والمعارك، بل أيضًا عبر الصناعات والمنتجات التي صنعت الهويّة المادّية والمعنويّة للجيُوش.

ترجمة الوثيقة العثمانيّة:

قد عُـــرض علينا…،

بما أن جلب صنّاع الشّاشية من تونس إلى دار السعادة سيكون أمرًا مناسبًا، فإنّه على مقتضى التّقرير المرفوع من القائد العسكري، وبما ورد في المذكرة والإفادة، يلزم إصدار الأمر اللازم لتنظيم ذلك والشّروع في تنفيذه.

إن ما ورد في تقرير القائد العسكري هو: أنّ صناعة الشّاشية التي ستُقدَّم بعد الآن إلى العساكر المنصورة، وما يتبعها من محاسن، تقتضي جلب الصُّناع المهرة والأُجَراء من تونس، وأن مقدار هؤلاء وأصنافهم قد بُيّن ورُفع إلى الحضرة العليّة، وأُدرج في المذكرة المرفوعة. فإذا ما اقتضت الإرادة السّنية الشّاهانية إنفاذ ذلك، فإنّه سيصدر فرمان عالٍ على هذا الأساس، وسيُنفّذ الأمر ويُعتمد بمقتضى ما ورد في العلم الشّريف.

ومما هو معلوم أن أمرًا عالياً قد صدر سابقًا بخصوص محاولة إعداد الشّاشية وصناعتها في دار السّعادة وفي بعض المحالّ الأخرى، غير أن تلك المحاولات لم تُثمر النتيجة المطلوبة بالوجه اللائق، ولهذا فإنّ الشّاشية اللازمة لعساكر الخيّالة والمُشاة من العساكر الخاصة المنصورة المحمّدية وعساكر حضرة السّلطان، كانت في غاية الأهمّية.

ولما كان من اللاّزم في هذا الشأن جلب بعض المتخصصين (الأُسطوات) المَهرة من تونس، فقد صدرت الإرادة الكريمة بإحضارهم مع بعض العمال إلى دار السّعادة. ولهذا، فقد اقتضى الأمر السّنيّ من جناب السلطان أن يُستقدم على وجه السّرعة من تونس الباش حانبه مصطفى پهلوان بك، ومعه من يلزم من الأُسطوَات في فنون الحياكة والنّساجة وصناعة الشّاشية والخياطة والحدادة والنّجارة، بحيث يكونون قادرين على أداء ما يُطلب منهم من أعمال.

وقد دوِّن في الدّفتر الخاص بذلك أسماء هؤلاء المجلوبين، وأُشير إلى أنّ حضورهم بهذا العدد لازم وضروريّ. وعند وصولهم إلى دار السّعادة، فإنهم سيُستخدمون في صناعة الشاشيّة الخاصة بالعساكر النّظامية، لما لهذا الأمر من أهمّية عظمى، حيث لا يمكن الاستغناء عنه.

وقد تقرر أن يُنتخب من تونس هؤلاء الأسْطوات والعمّال ممن هم كاملون وماهرون في صناعتهم، وأن يُهيَّأ العدد الكافي منهم ويُرسل على الفور. وبما أن ذلك من الأمور المقررة، فقد رُفع إلى الدّيوان أن يقوم قپودان باشا، علي بك، بمباشرة هذا الأمر، والإشراف على تجهيزهم وإرسالهم إلى دار السّعادة من غير نقصان في العدد.

ولهذا، فإنّ إرسالهم وتسليمهم إلى حضرة الدّفتردار المذكور لازم على وجه السّرعة، وأن يُدوَّن كل ما يتعلق بهم في سجل مفصّل، وأن يُرفع تقرير شامل عنهم. وبناءً على ذلك فقد صدر الأمر العالي بوجوب إرسالهم وتسليمهم فورًا، على أن يُبلَّغ الأمر إلى بيلارباي تونس حسين باشا، وأن يُخاطَب في هذا الشأن بما يقتضيه الواجب.

وقد صدر الفرمان الشّريف، وأُثبت في السّجل العالي.

المصدر: الأرشيف العثماني، وثيقة رقم HH, nr. 18748

التاريخ: 1246هـ / 1830م

عن الكاتب


شاركها.