د. سمير صالحة أساس ميديا
هل يشكّل فوز طوفان إرهرمان برئاسة شمال قبرص تحوّلاً سياسيّاً حقيقيّاً، أم تبديلاً في الأدوار بين اليمين واليسار؟ وهل ما جرى في صناديق الاقتراع هو انعكاس لإرادة الناخب القبرصيّ التركيّ، أم نتيجة لتوازنات إقليميّة ودوليّة أعادت رسم المشهد من وراء الكواليس؟إلى أيّ مدى يمكن لهذا التحوّل أن يفتح الباب أمام تسوية جديدة للملفّ القبرصيّ المجمّد منذ عقود؟ وهل نحن أمام بداية صفحة جديدة في العلاقات، أم أمام اختبار معقّد لطبيعة العلاقة بين الداخل القبرصيّ والعمق التركيّ؟
في تحوّلٍ سياسيٍّ بارز، انتخب القبارصة الأتراك طوفان إرهرمان رئيساً جديداً لجمهوريّة شمال قبرص، بعد حصوله على نحو ثلثَي أصوات المقترعين، في انتخاباتٍ فاجأت أنصار “تحالف الجمهور” في الداخل التركيّ، الذين راهنوا على بقاء الرئيس أرسين تتار.
تعكس هذه النتيجة تغيّراً في المزاج الشعبيّ، وتفتح نافذةً محتملةً لإعادة إحياء ملفّ التسوية القبرصيّة المجمّد منذ سنوات. ويراهن كثيرون على أن يكون فوز إرهرمان نقطة انطلاقٍ لرسم سيناريوهاتٍ إقليميّةٍ جديدة، قد تعيد ترتيب خريطة النفوذ أمام سواحل الجزيرة، وسط توازناتٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ معقّدة.
كيف ستتعامل أنقرة مع التحوّلات الحاصلة؟ وهل يكون لِما يجري دوره في فتح أبواب حوارٍ إقليميٍّ ٍ بملفّات شرق المتوسّط والطاقة وترسيم الحدود البحريّة بين الدول المتشاطئة؟
منعطفٌ مفصليّ؟
يصف البعض ما جرى مساء الأحد الماضي في قبرص التركيّة بالمنعطف المفصليّ الذي سيحمل معه تحوّلاتٍ داخليّةً وخارجيّةً كثيرة في طريقة التعامل مع ملفّ الأزمة القبرصيّة المزمنة.
يرى آخرون أنّ فوز إرهرمان ليس تحوُّلاً جذريّاً، بل استمرارٌ لدورة التناوب بين اليمين واليسار منذ عام 1983، خاصّةً أنّ الرئاسة في النظام البرلمانيّ القبرصيّ التركيّ تحمل طابعاً فخريّاً وذات قدرةٍ محدودةٍ على التأثير، بينما تبقى مفاتيح الملفّ القبرصيّ بيد توازناتٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ شديدة التعقيد.
ما هي رسائل الناخب القبرصيّ التركيّ؟ وكيف ستتعامل أنقرة مع هذا المشهد الجديد؟ وهل هذا التحوُّل هو نتاج صناديق الاقتراع التي أنهت حكم رئيسٍ مدعومٍ من قبل أنقرة، أم يعكس تقاطع مصالح إقليميّة دفعت باتّجاه التغيير؟
فاز إرهرمان بـ63% من الأصوات مقابل 36% لتتار، في نتيجةٍ فاجأت الداخل التركيّ الذي راهن على فوز مرشّح أنقرة. وتُعزى الهزيمة إلى تراجع ثقة القبارصة الأتراك بالحكومة، بسبب الأزمات المعيشيّة وتعثّر تسوية الملفّ القبرصيّ، خاصّةً مع استمرار تجاهل العالم لحلّ الدولتين، ومسألة الاعتراف بجمهوريّة قبرص التركيّة، مقابل استفادة الجنوب من عضويّة الاتّحاد الأوروبيّ دون حلٍّ نهائيٍّ للوضع القائم.
على الرغم من رسائل الانفتاح التي وجّهها إرهرمان باتّجاه أنقرة، مؤكّداً أنّ سياسته الخارجيّة ستكون بالتشاور معها، وأنّ تركيا ستظلّ شريكاً وضامناً لأيّ تسويةٍ مستقبليّة، خرج الزعيم القوميّ دولت بهشلي، شريك إردوغان في “تحالف الجمهور”، ليرفض النتيجة، داعياً البرلمان القبرصيّ إلى التصويت على قرار الانضمام الفوريّ إلى تركيا فتكون قبرص التركيّة ولايةً جديدة.
بعد سبع سنواتٍ من الجمود، وانهيار جولات التفاوض السابقة، يبدو أنّ فوز إرهرمان يعيد النقاش في إعادة فتح ملفّ التسوية، ربّما عبر مسارٍ جديدٍ مختلفٍ عن ذلك الذي رعته الأمم المتّحدة في الماضي، لا سيّما أنّ المجتمع الدوليّ، والاتّحاد الأوروبيّ تحديداً، يرى في انتخاب رئيسٍ منفتحٍ على العودة إلى طاولة التفاوض فرصةً لإخراج الملفّ من الثلّاجة.
لكنّ هذا السيناريو ليس مضموناً، فالقبارصة اليونانيّون لم يُبدوا استعداداً حقيقيّاً لتقديم تنازلات، على الرغم من كلّ ما كسبوه من اعترافٍ دوليّ وعضويّةٍ كاملة في الاتّحاد الأوروبي. ولا تزال تجربة رفض خطّة كوفي عنان، التي رحّبت بها ودعمتها أنقرة وليفكوشة عام 2004، ماثلةً أمام الأعين.
بداية مسار جديد؟
لم تعد مشكلة الجزيرة القبرصيّة شأناً داخليّاً أو حتّى ثنائيّاً تركيّاً يونانيّاً، بل أصبحت ساحةَ اشتباكٍ استراتيجيٍّ متعدّد الأطراف. فقد أخلّ دخول اللاعب الإسرائيليّ بثقله العسكريّ إلى جانب قبرص اليونانية، الذي شمل نشر أنظمة دفاعٍ جوّيٍّ متطوّرة وإنشاء قواعد مراقبةٍ متقدّمة، بالتوازنات وعقّد الأمور أكثر فأكثر.
لذلك أيّ مفاوضاتٍ مقبلةٍ تُجرى ستكون ضمن توازناتٍ إقليميّةٍ مغايرة تستدعي نقاشات في ملفّ شرق المتوسّط وثرواته الباطنيّة، وتفاهمات لترسيم الحدود البحريّة ورسم خطوط نقل الطاقة إلى أوروبا. فهل يقود دخول اللاعبَين الأميركيّ والإسرائيليّ على الخطّ نحو تقاربٍ تركيٍّ أوروبيٍّ باتّجاه تسريع الحلحلة في ملفّ الجزيرة وقطع الطريق على خلط الأوراق التي تغامر بها قبرص اليونانيّة وأثينا؟
يُعلن وزير الخارجية التركيّ هاكان فيدان، بعد تهنئته الرئيس القبرصيّ التركيّ الجديد، أنّ “تركيا ستبقى الضامن لقضيّة القبارصة الأتراك”، وأنّ “الحلّ الواقعيّ الوحيد يكمن في القبول بوجود دولتين منفصلتين”. لكنّ ما تقوله أنقرة أبعد من ذلك بكثير. فمعضلة الجزيرة باتت جزءاً من معضلة شرق المتوسّط بكلّ تفرّعاتها، ووجودها في قبرص الشماليّة ليس فقط ضمانةً للأمن القوميّ التركيّ ولقبارصة الجزيرة، بل أيضاً ورقة استراتيجيّة لا يمكن التخلّي عنها في ملفّات الغاز والطاقة. فشرق المتوسّط، بخزّاناته من الهيدروكربونات، بات أحد ميادين التنافس الكبرى، خاصّةً بعد طرح مشاريع نقل الغاز الإسرائيليّ والقبرصيّ عبر اليونان إلى أوروبا.
فوز إرهرمان، مع طابعه المحلّي، قد يدفع قوى إقليميّةً ودوليّةً لإعادة التموضع. فواشنطن تسعى إلى سلامٍ إقليميٍّ جديدٍ يُبعد تركيا عن روسيا، والاتّحاد الأوروبيّ يبحث عن فرصةٍ لاستعادة نفوذه، بينما تل أبيب تحاول الحدّ من النفوذ التركيّ، والدول المتشاطئة تركّز على حفظ مصالحها في ثروات الغاز وسط كلّ هذين الشدّ والجذب الاستراتيجيَّين.
إقرأ أيضاً:
ربّما لا يكون فوز إرهرمان بحدّ ذاته كافياً لإحداث اختراقٍ جذريٍّ في ملفٍّ عمره أكثر من سبعين عاماً، لكنّه بالتأكيد أعاد تحريك المياه الراكدة وفتح الباب أمام سيناريوهاتٍ جديدةٍ في لحظةٍ إقليميّةٍ مشحونة.
يواجه إرهرمان تحدّياً داخليّاً بتعايشه مع برلمانٍ يمينيٍّ وحكومةٍ قد لا تشاركه رؤيته، وهو ما يجعله حريصاً على تجنّب تصعيدٍ سياسيٍّ داخليّ أو الذهاب نحو سيناريو انتخاباتٍ مبكرةٍ قد تُغضب أنقرة. سيكون من أولويّاته الحفاظ على دعم أنقرة أوّلاً، ومحاولة فتح قنوات تواصلٍ مع أوروبا والمجتمع الدوليّ ثانياً.
لا يشكّل فوز إرهرمان نهايةً للانقسام القبرصيّ، لكنّه قد يكون بدايةً لمسارٍ جديدٍ يتقاطع مع تحوّلاتٍ داخليّةٍ وإقليميّةٍ متسارعة. الكرة الآن في ملعبه وملعب أنقرة لرسم مقاربةٍ مختلفةٍ تعيد طرح القضيّة القبرصيّة على طاولة الحلول، وتمنح شمال الجزيرة فرصةً أكبر للانخراط في معادلات شرق المتوسّط.
