اخبار تركيا

عقوبة الغنوشي.. ثمن الوعي والديمقراطية والاعتدال

ياسين أقطاي يني شفق

إن التصريحات الهستيرية التي أدلى بها ترامب بشأن غزة، وما تبعها من تهديده السافر أمس بـ” فتح أبواب الجحيم في غزة” إن لم يُفرج عن الأسرى الإسرائيليين هي لغة عدائية صريحة ضد الفلسطينيين، وإقرار رسمي بمسؤولية الولايات المتحدة المباشرة عن العدوان على غزة، وإعلان صريح لانخراطها في التصعيد ضد الفلسطينيين. إن ما يحيكه ترامب في ذهنه من مخططات تهدف إلى تهجير الغزيين وإخضاعهم، يكشف بجلاء أن الولايات المتحدة لم تعد تهديدًا لغزة وحدها، بل باتت خطرًا وشيكا ومباشرًا للعالم الإسلامي بأسره.

غير أن الجانب الإيجابي في هذا المشهد هو أن هذا التهديد، الذي كان قائمًا بالفعل منذ زمن بعيد، بدأ يوقظ وعي العالم الإسلامي تجاه الهيمنة الأمريكية، ويدفعه إلى إدراك فداحة هذا الخطر. إن إدراك الدول الإسلامية لهذا التهديد السافر، وبلوغه هذا المستوى من الوقاحة والغطرسة يجعل من التصدي له ضرورة لا تحتمل التأجيل، بل يستوجب إعادة تشكيل محور جديد لمواجهته. وإذا لم تتخذ هذه الدول موقفًا جادًا، فعليها أن تدرك أنها جميعًا ستُلقى في مزبلة التاريخ. ولعل ردود الفعل الأولية من السعودية والأردن ومصر إزاء هذيان ترامب تبعث على التفاؤل، ونأمل أن يدفع هذا الوعي الجميع نحو اتخاذ تدابير حقيقية.

ولكن التصدي الفعلي لهذه التهديدات يتطلب من العالم الإسلامي توحيد صفوفه، وحل خلافاته الداخلية، فضلا على أن تعمل كل دولة على تعزيز قواها الذاتية. فالتلاحم بين الدول وشعوبها، وانتهاج سياسات تعتمد على إرادة الشعوب، يمثلان الخطوة الأولى والأكثر فاعلية في مواجهة التهديدات الأمريكية وغيرها. وقد سبق أن أكدنا هذه الحقيقة في سياق الحديث عن غزة، وكذلك حين أشرنا إلى اعتقال راشد الغنوشي ظلمًا في تونس وهو في الثانية والثمانين من عمره.

وكما ذكرنا سابقًا، فإن أمثال الغنوشي ليسوا مواطنين تونسيين فحسب، بل هم من أكثر الشخصيات إلهامًا وانفتاحًا في العالم الإسلامي، وهم منارة فكرية على مستوى الاجتهاد في الفقه السياسي الإسلامي. لقد كرس الغنوشي حياته للنضال من أجل تطوير حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية في العالم الإسلامي بطريقة سلمية.

وبصفته زعيم حركة النهضة، عارض الغنوشي حل البرلمان من قبل الرئيس التونسي عندما كان رئيسًا للبرلمان، ولكن معارضته لم تكن كافية لوقف الانقلاب الذي قاده الرئيس نفسه. ولو أنه رغب بالاستيلاء على السلطة تدريجيًا أو على مراحل وقمع جميع معارضيه بعد أن تصدر حزبه الانتخابات لتمكن من ذلك، لكنه لم يلجأ أبدًا إلى مثل هذا الطريق لإيمانه الراسخ بالديمقراطية وبناء البلاد معًا. وللأسف، فإن الرئيس الذي دعمه الغنوشي في الانتخابات يسعى إلى تحويل الغنوشي إلى ضحية للديمقراطية التي يؤمن بها ليجمع كل السلطات في يده. فلم يكتفِ بحل البرلمان، بل زج بالغنوشي في السجن عبر قضايا ملفقة تهدف إلى إسكات صوته.

وللأسف، بينما كان يتوقع الإفراج عنه بعد فترة طويلة من الاعتقال التعسفي، أصدرت المحكمة التونسية في 4 فبراير/شباط 2025 حكمًا بالسجن لفترة طويلة بحقه، مع العديد من الشخصيات السياسية البارزة والمسؤولين السابقين والصحفيين، بتهمة التآمر على الدولة.

وتُعتبر الأحكام الصادرة في قضية “إنستالينغو” ذات دوافع سياسية تهدف إلى إسكات المعارضين، على غرار العديد من الحالات المماثلة التي شهدها تاريخ البلاد، ففي القضية ذاتها، حُكم غيابيا على رئيس الوزراء الأسبق هشام المشيشي بالسجن 35 عاماً، كما صدرت أحكام بالسجن بحق ما يقرب من 50 متهمًا، يتجاوز مجموعها 700 سنة.

وتُعدّ شركة “إنستالينغو” إحدى المؤسسات الإعلامية المتخصصة في إنتاج المحتوى الرقمي والترجمة، بما في ذلك خدمات الحملات الانتخابية. وعلى خلاف الادعاءات الموجهة ضدها، لم تقدّم الشركة أي خدمات انتخابية لمرشح حركة النهضة خلال انتخابات 2019، بل قدمت خدماتها لعبد الكريم الزبيدي، وهو أحد أبرز معارضي النهضة السياسيين.

ويبدو أن هذا القرار ليس سوى جزء من حملة قمع أوسع نطاقًا تهدف إلى تصفية المعارضة السياسية، لا سيما أعضاء حركة النهضة والصحفيين والمدونين والمسؤولين الحكوميين المستقلين.

وخلال المحاكمة، لم يُلتزم بالحد الأدنى من الإجراءات القانونية الأساسية، حيث تم تجاهل قرينة البراءة وحقوق الدفاع بشكل صارخ. وقد خضع راشد الغنوشي في بداية التحقيقات قبل عامين لجلسة استجواب استمرت 12 ساعة، دون أن تُوجَّه إليه أي تهم، ليُطلق سراحه لاحقًا. غير أن الضغوط السياسية التي مورست على قاضي التحقيق أدت إلى توجيه اتهامات جديدة إليه وإدراجه مجددًا ضمن القضية، ليتم اعتقاله مجددا. وما شهدته محكمة سوسة من تغيير متكرر لستة قضاة تحقيق ومدعين عامين يؤكد حجم التدخل والضغوط السياسية في القضية، فقد تم عزلهم أو نقلهم بأوامر من وزارة العدل، بسبب رفضهم الامتثال لأوامر السلطات السياسية.

وفي نفس القضية أدينت شخصيات سياسية أخرى، بمن فيهم الوزير السابق رياض بالطيب والنائب سيد الفرجاني، دون وجود أي دليل يربطهم بشركة إنستالينغو أو أي مؤامرة ضد الدولة. ولم يقيم أي دليل مادي يدعم الاتهامات الموجهة ضد الغنوشي أو المتهمين الآخرين.

وفي خطوة غير مسبوقة، تم استهداف أفراد عائلات المتهمين وعاقبتهم، فقد حُكم على معاذ الغنوشي، ابن راشد الغنوشي، بالسجن 35 عاماً، وعلى ابنته سمية بالسجن 25 عاماً، وعلى صهره ووزير الخارجية السابق رفيق عبد السلام بالسجن 34 عاماً.

ولأول مرة في تاريخ تونس، تم اتخاذ إجراء عقابي ضد المعارضين السياسيين يقضي بمصادرة ممتلكات المعارضين السياسيين. وتشير هذه التصعيدات إلى مرحلة جديدة ومقلقة من الضغوط، حيث لم يقتصر الأمر على سجن الشخصيات المعارضة، بل تم حرمانهم وأسرهم أيضًا من مواردهم المالية والشخصية. وليس ذلك فحسب، فقد اُتهم بعض الأفراد غير التونسيين زورا بالارتباط بأعمال إجرامية، وأشير إلى أنهم مواطنون أتراك، مما يحمل تلميحًا بتوجيه تهمة ضمنية لتركيا. وتظهر لغة القضية أن هناك تحريضًا من مركز معين ضد تركيا، التي لم تكن يومًا جزءًا من أي عداء مع تونس ولن تكون.

إن إدراج وضاح خنفر في هذه القضية ـ وهو فلسطيني لا يحمل حتى الجنسية التونسية ويعد من أبرز المثقفين في العالم الإسلامي ـ والحكم عليه بالسجن 35 عاما، يؤكد أن هذه ليست محاكمة قانونية عادلة، بل هي عمل انتقامي وتصفية مقلقة.

لنعد إلى ما بدأنا به، يعتبر راشد الغنوشي رمزاً للاعتدال والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم الإسلامي. وفي بيئة تحققت فيها بعض الحريات في أفغانستان وسوريا وغزة بقوة السلاح، هل معاقبة الغنوشي بهذه الطريقة تعني أن أسلوبه السياسي لا مكان له في العالم الإسلامي؟ يبدو أن النقاش في الأيام المقبلة سيدور حول هذا الموضوع.

وأما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، يُعتبر الغنوشي من أقوى المفكرين الذين يُمثلون روح الوحدة والتحفيز التي يحتاجها العالم الإسلامي. وإذا كان لا بد من اتخاذ موقف حازم في القضية الفلسطينية فيجب أن تُتاح الفرصة أولاً لأمثال هؤلاء الأشخاص للتحدث والمشاركة في الميدان، فكيف يمكن أن نُبقيهم في السجون وإبقاؤهم في السجون وعزلهم أكبر خدمة لإسرائيل وأصدقائها!

عن الكاتب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *