اخبار تركيا

بينما تُعيد سوريا تشكيل ملامحها في مرحلة انتقالية حساسة، يعود الجنوب السوري ليشكّل بؤرة اهتمام متجددة، تتقاطع فيها مصالح 4 قوى فاعلة هي سوريا وروسيا وتركيا وأخيراالاحتلال الإسرائيلي.

وتبرز مبادرة إعادة انتشار الدوريات الروسية في الجنوب السوري كخيار مطروح، نظرا لما تحمله من إمكانية إعادة ترتيب التوازنات الميدانية وتقليص احتمالات التصعيد.

وذكرت وسائل إعلام أن الرئيسأحمد الشرعناقش هذا المقترح مع نظيره الروسيفلاديمير بوتينخلال زيارته الأخيرة إلى موسكو، في خطوة تسعى من خلالها دمشق إلى تجنّب الانفجار في الجنوب، عبر آلية سبق أن اختبرتها في عهد النظام المخلوع.

وتنسجم هذه الآلية مع مساعي موسكو للحفاظ على نفوذها، ومع تطلّعات الحكومة السورية الجديدة لترسيخ الاستقرار دون صدام مباشر مع الاحتلال الإسرائيلي.

مكاسب دمشق

لا يمثل الانتشار الروسي في الجنوب مجرد ترتيبات أمنية ظرفية بالنسبة لسوريا، بل يمنح الفرصة لتقليص الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، واستعادة السيطرة التدريجية على واحدة من أكثر الجبهات هشاشة وتعقيدا منذ بداية الأزمة.

وسبق أن ذكرت صحيفة “كوميرسانت” الروسية أن السلطات السورية تبدي اهتماما باستئناف دوريات الشرطة العسكرية الروسية في محافظات الجنوب، على غرار ما كان عليه الوضع قبل إسقاط النظام المخلوع.

ونقلت الصحيفة عن مصدر حضر لقاء وزير الخارجية أسعد الشيباني، مع الجالية السورية في موسكو نهاية يوليو/تموز الماضي، أن دمشق ترى في هذا الطرح وسيلة فعالة لـ”تقليص العمليات العسكرية الإسرائيلية” التي تُنفذ بذريعة إقامة منطقة عازلة أو لحمايةالطائفة الدرزيةفي الجنوب السوري.

وكانت هذه المعلومات في البداية جزءا من تسريبات روسية سبقت زيارة الشرع إلى موسكو، لكنها تتقاطع مع ما نشرته وكالة رويترز نقلا عن مصادر سورية، أشارت إلى أن الوفد السوري الذي زار روسيا سعى إلى ضمانات من موسكو،أبرزها:

منع دعم فلول النظام السابق.
المساعدة في بناءالجيش السوريالجديد.
إعادة نشر الشرطة العسكرية الروسية في الجنوب، كوسيلة لخفض التصعيد معإسرائيل.

وفي هذا السياق، يقول الخبير في العلاقات السورية الإسرائيلية، خالد خليل إن دمشق تحاول من خلال هذه الدوريات إعادة ضبط علاقتها مع موسكو ضمن رؤية جديدة للدور الروسي في الجنوب، لا يقتصر فقط على التهدئة، بل يشكّل مظلة توازن في مرحلة دقيقة.

ويتابع خليل للجزيرة أن دمشق تحاول في هذه المرحلة الانتقالية، وفي ظل محدودية الموارد وصعوبة الظرف الداخلي ألا تفرّط بسيادتها على الجنوب، لكنها في المقابل تواجه عنجهية إسرائيلية واعتداءات متكررة، مما يجعل فكرة الانتشار الروسي خيارا واقعيا ومقبولا، كجزء من إستراتيجية فرض السيادة عبر أدوات متاحة، دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة.

بوابة موسكو لاستعادة النفوذ

تتحرك موسكو إلى جانب سعيها لتثبيت وجودها العسكري في قاعدتي حميميم وطرطوس غربي البلاد إلى ترسيخ نفوذها في الجنوب السوري، في محاولة لاستعادة دورها كقوة ضامنة بعد انتكاسة كبيرة تعرّضت لها بسقوط حليفها القديم، النظام المخلوع.

وجاءت التصريحات الروسية الرسمية، وعلى رأسها ما أدلى به وزير الخارجيةسيرغي لافروفمن إدانة للغارات الإسرائيلية المتكررة على أهداف داخل سوريا، لتؤكد أن موسكو مازالت حاضرة على الساحة السورية.

وفي هذا السياق يرى ديمتري بريجع مدير وحدة الدراسات العربية في مركز الدراسات العربية الأوراسية أن عودة الدوريات الروسية إلى الجنوب السوري تمثل تحوّلا إستراتيجيا يعيد موسكو إلى قلب المشهد السوري بعد فترة من الغياب النسبي.

ويشير بريجع في حديثه للجزيرة نت أن هذه الخطوة لا تأتي فقط لأسباب ميدانية، بل تحمل أبعادا سياسية وأمنية تهدف إلى تثبيت النفوذ الروسي كضامن توازن بين القوى المحلية والإقليمية.

وتحاول روسيا من خلال هذه الخطوة أن تذكّر الجميع بأنها لا تزال الطرف الوحيد القادر على ضمان الحد الأدنى من الاستقرار في سوريا، فهي تمسك بخيوط اللعبة الميدانية وتملك قنوات اتصال مع دمشق، أنقرة،وتل أبيبفي آن واحد، يضيف بريجع.

وكانت دراسة صادرة عن مركز جسور للدراسات أظهرت أن عدد نقاط القوات الروسية في الجنوب السوري في العام 2023 وصلت إلى 9 مواقع، وكانت آخر نقطة مراقبة تموضعت فيها القوات الروسية على موقع “تل أحمر” فوق هضبةالجولان.

وسحبت روسيا قواتها من الجنوب السوري بعد سقوط النظام ومن كامل المحافظات السورية، باستثناء قاعدتي حميميم وطرطوس غربي البلاد.

تركيا وإسرائيل

سبق أن عبرت حكومة الاحتلال الإسرائيلي عن قلقها المتزايد من التمدد التركي داخل سوريا، خصوصا في ظل التقارب السياسي الكبير بين أنقرة ودمشق عقب سقوط النظام السابق، وتداول معلومات عن نية تركيا إنشاء قواعد عسكرية في وسط البلاد، إلى جانب دعم عسكري وتدريب قوات سورية في الأراضي التركية.

وفي تقرير سابق لوكالة رويترز، نقلا عن 4 مصادر مطلعة، ورد أن إسرائيل ضغطت على واشنطن للإبقاء على سوريا ضعيفة بلا مركزية قوية، من خلال السماح لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتيها العسكريتين في حميميم وطرطوس، كوسيلة لموازنة النفوذ التركي المتصاعد.

وأشارت المصادر إلى أن العلاقة المتوترة أصلا بين أنقرة وتل أبيب تفاقمت خلال حرب الإبادة على غزة، حيث أبلغ مسؤولون إسرائيليون نظراءهم الأميركيين بأن “الحكام الإسلاميين الجدد” في سوريا يشكّلون تهديدا حقيقيا للحدود الشمالية.

قلق إسرائيل من إيران

وفي ما يتعلق بالقلق الإسرائيلي التقليدي من الوجود الإيراني في الجنوب السوري، سبق أن صرّح المبعوث الروسي السابق إلى سوريا قبيل سقوط النظام، ألكسندر لافرونتييف، بأن إقامة نقاط مراقبة روسية إضافية في الجنوب تهدف إلى طمأنة الجانب الإسرائيلي بأن المجموعات الإيرانية المسلحة لن تكون لها اليد الطولى في تلك المناطق.

من جهتها، نقلت صحيفة “كوميرسانت” الروسية عن مصدر إسرائيلي أن موقف تل أبيب من استئناف الدوريات الروسية يعتمد على عدة عوامل،أبرزها:

طبيعة الاتفاقات الثنائية مع موسكو.
الموقف الذي ستتبناه روسيا في حال تم التوصل إلى تفاهم جديد مع الحكومة السورية الحالية.

ويقول الباحث في الشؤون الروسية ديمتري بريجع إن إسرائيل تنظر إلى الانتشار الروسي في الجنوب كـ”ضمانة أمنية غير مباشرة”، إذ ترى في موسكو طرفا يمكن التفاهم معه على أرضية ميدانية واضحة، بعيدا عن الفوضى التي قد تخلّ بها أطراف أخرى.

ويضيف أن الدوريات الروسية تشكّل في نظر إسرائيل وسيلة لاحتواء الفلتان ومنع التصعيد على الحدود الجنوبية، وضمان استقرار الجولان قدر الإمكان.

لكن الباحث خالد خليل يستبعد في هذه المرحلة أن توافق إسرائيل على أي وجود لقوات سورية رسمية في الجنوب، مشيرا إلى أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ذات التوجهات اليمينية المتطرفة لا تزال تصر على تحييد الجبهة الشمالية بالكامل.

ويرجّح خليل أنه ربما بعد تغيّر تركيبة الحكم في تل أبيب، قد تصبح الشرطة العسكرية الروسية ضامنا وبديلا عن وجود قوات سورية على الحدود الشمالية للإسرائيل.

حسابات خاصة بأنقرة

لا يمكن فصل التحرك الروسي في الجنوب السوري عن المشهد الأشمل للتفاهمات الروسية التركية، التي تعود جذورها إلى اتفاقيات “أستانا” و”سوتشي” خلال السنوات الأولى للثورة السورية.

تلك التفاهمات رسمت عمليا خرائط السيطرة وخطوط التماس بين النظام والمعارضة، ونتج عنها تسيير دوريات روسية تركية مشتركة على الطريق الدولي “إم 4” بين حلب واللاذقية مرورا بدمشق.

وفي حين يعاد اليوم بحث ترتيبات الجنوب، يبدو أن أنقرة تتابع التطورات عن كثب، وتُبدي ما يشبه القبول المشروط بالوجود الروسي جنوبي البلاد، بوصفه لا يتعارض مع مصالحها الأمنية المباشرة، بل قد يخدم أهدافا مشتركة.

ويقول الخبير العسكري العميد عبد الله الأسعد إن هناك تفاهمات أولية بين سوريا وروسيا، تُدار بالتنسيق مع حلفاء مشتركين أبرزهم تركيا، مضيفا أن “أنقرة باتت ترى في موسكو شريكا أكثر جدية في دعم استقرار سوريا، خاصة بعدما خيّب المسار الأميركي آمالها”.

ويؤكد الأسعد للجزيرة نت أن هناك اتفاقا سوريا تركيا ضمنيا على دور روسي في الجنوب، بل إن الحليف التركي هو من أوعز إلى القيادة السورية بالتوجه نحو موسكو لتفعيل هذا الخيار.

وتعزز هذه المقاربة دراسة حديثة صادرة عن مركز “تقدم للسياسات”، أكدت أن تركيا نظّمت زيارة الوفد السوري إلى موسكو الذي ضم وزراء الخارجية والدفاع والاستخبارات، وهي لا تعارض بقاء قوات روسية جنوبي البلاد، بل لا تعتبره منافسة مباشرة لها داخل سوريا.

وفي السياق نفسه، يرى الباحث التركي في العلاقات الدولية محمد رقيب أوغلو أن أنقرة تنظر بإيجابية إلى التعاون السوري الروسي، طالما أنه لا يمس مصالحها الإستراتيجية.

تهديدات “قسد”

ويضيف أوغلو في حديثه للجزيرة نت أن تركيا تسعى إلى إنهاء خطرقوات سوريا الديمقراطية”قسد” وذراعها العسكري البحزب العمال الكردستاني، ولذلك تدعم أي تحرك يحدّ من تمدده شمالا أو جنوبا، ومن ضمنه التحركات الروسية التي تجري بالتنسيق مع أنقرة.

وتجلّى هذا التوجه في خطوة لافتة مطلع أغسطس/آب الماضي، حين سيرت روسيا دورية عسكرية قرب القامشلي شمال شرقي سوريا، دون مشاركة قوات “قسد”، وذلك بعد سلسلة لقاءات سورية روسية في موسكو.

واعتبرت هذه الخطوة من قبل مراقبين مؤشرا على تحوّل واضح في خريطة التحالفات الميدانية، واستبعادا تدريجيا لقسد من ترتيبات المستقبل السوري، بما يخدم الحسابات التركية في الإقليم.

شاركها.