طه كلينتش يني شفق
أولا: في أحد أحياء سراييفو العليا، وقفنا على عتبة مسجد عثماني صغير، وأذان المغرب على وشك أن يُرفع. وقبل أن ندخل، لمحنا عند الباب رجلاً بوسنياً مسنّاً، فحيّيناه وقوفاً. وما إن علم أننا قادمون من إسطنبول، حتى اندفع يحدّثنا بجمل مسرعة لا نفهم منها شيئاً؛ فهو لا يعرف التركية ولا الإنجليزية، ونحن لا نجيد البوسنية. حاولنا جاهدين أن نفهم، لكن دون جدوى. وأخيراً، لوّح بيده بإشارةٍ بدت كأنها تقول: “يا للخسارة!” ثم دخل المسجد. رفع الأذان، وأقام الصلاة. وبعد انتهاء الصلاة انخرط المصلون رجالًا ونساءً في حديث مطول أمام الباب. وكانت بينهم سيدة من بريزرن، تتحدث التركية بطلاقة. فطبت منها أن تسأل العم عما كان يريد قوله لنا عند المدخل. التفتت إليه واستمعت إليه، ثم ترجمت لنا: “هذا المسجد بناه أجدادكم. وبما أنكم قادمون من إسطنبول، كان ينبغي عليكم أن تؤذنوا الآن.
ثانيا: نزلنا في أحد فنادق مدينة مراكش المغربية. وبمجرد أن أدرك أحد موظفي الاستقبال اهتمامي بالتاريخ، قدّم لي اقتراحاً رائعاً: “هل تودّ الصعود إلى مئذنة جامع الكتبية؟” وهل يُرفض مثل هذا العرض؟ بالطبع لا، قال لي: “اذهب إلى الجامع وقت الصلاة، وسترى المؤذن الشيخ حسن خلف الإمام مباشرة. وبعد الصلاة، عندما يخرج الجميع، أخبره أنك تريد الصعود إلى المئذنة.” هل الأمر بهذه البساطة؟ نعم. ذهبت إلى المسجد، وعثرت على الشيخ حسن، وكررت عليه ما قاله الموظف. فابتسم، ثم انتظرنا خروج المصلين، سرنا عبر الفناء الداخلي نحو المئذنة ثم فتح القفل قائلاً: “تفضل، يمكنك البقاء قدر ما تشاء. وعندما تنزل، أخبرني لأغلق الباب.” كانت مراكش تبدو من أعلى المئذنة لوحة لا تُنسى. التقطت الكثير من الصور والفيديوهات. وكان سرّ هذه اللحظة الاستثنائية كلمتين فقط: “جئت من إسطنبول”.
ثالثا: في عمّان، عاصمة الأردن، استقلينا سيارة أجرة. كنا في طريقنا من وسط البلد إلى الفندق الذي نقيم فيه. بدأ الحديث بكلمات قليلة، وما إن علم السائق بأننا من تركيا ومن إسطنبول تحديداً حتى تحول الحديث إلى حوار وديّ غزير. فقد زار إسطنبول، وأعجب بها كثيراً. وأخذ يتحدث بحماس عن مضيق البوسفور والمعالم التاريخية، كان يتحدث بحماس وشغف كبيرين وكأنه لا يريد للرحلة أن تنتهي، يطيل الطريق ويدخل أزقة جانبية. وعندما وصلنا، رفض أن يأخذ الأجرة. حاولنا بشتى الطرق لكنه لم يقبل. ففي ذلك الجسر المهيب الذي يؤلف بين قلوبنا، لم يكن للمال قيمة.
رابعا: في القدس، وبينما ندخل من البوابة الرئيسية للمسجد الأقصى لأداء صلاة العشاء، فإذا برجل فلسطيني مسنّلا أعرفه ولا يعرفني يمسك بتلابيبي فجأة، ويبدأ بتوجيه سيلٍ من الانتقادات والمطالب: “لماذا تفعلون كذا؟ ولماذا لا تقومون بكذا؟”. كانت جميع ملاحظاته تتعلق بقضايا سياسية ودبلوماسية بطبيعتها، إلا أنّ هوية المخاطَب لم تكن تعنيه البتة. يكفي في نظره أنني جئت من تركيا وأنني واقفٌ في باحات الأقصى، حتى أكون الطرف المعنيّ بكل تلك الأسئلة. كان يراني، ببساطة، واحداً من «أصحاب الدار»، لا لشخصي ولا لمكانتي المهنية، بل لأنني من تركيا فحسب.
خامسا: في بخارى، كنّا ضيوفاً في أحد القصور الأوزبكية الواسعة التي أثارت دهشتنا بفناءاتها الداخلية الرحبة. لم يمضِ وقت طويل على تعارفنا مع أصحاب الدار، لكنهم لم يسمحوا لنا بالمغادرة وأصروا على استضافتنا وإكرامنا. ورغم أنّ الوقت كان متأخراً من الليل، أُعدّت لنا وليمة فاخرة. كان مضيفونا من شدّة حفاوتهم يكادون يطعموننا بأيديهم، وكأنهم يريدون أن يساعدونا حتى مضغ الطعام. الخبز وسمبوسة، وأطباق الأرز، والسلطات، والحلوى، والشاي الأخضر… كانت واحدةً من ألذ الموائد التي دعيت إليها في حياتي. وقد كان سرّ هذه الحفاوة هو ذاته: أننا جئنا من تركيا.
أياً كانت الوجهة التي أمضي إليها في العالم الإسلامي، أعيش دائماً شعور الفخر المستحق والامتنان العميق وكل مزايا كوني مواطناً في الجمهورية التركية. أرى في عيون من ألتقيهم الفرح ذاته، والحماسة ذاتها، والسعادة نفسها. وألمس في أعماق وجدانهم وفي ذاكرة قلوبهم مكانة راسخة لا تهتزّ لتركيا.
وفي كل مرة أعود فيها إلى إسطنبول، أجد نفسي أردد الأدعية ذاتها:
“اللهم لا تردّ الأيادي التي تُرفع إليك من أجلنا، ولا تخيّب آمال إخواننا فينا. واجعلنا أهلاً لحسن ظنّ إخواننا وأخواتنا فينا. وافتح لنا من أبواب العمل والجهد والبذل ما يوسّع آفاقنا وقلوبنا لنعمل بجدٍّ أكبر وعزيمة أقوى”. اللهم آمين.
