طه كلينتش يني شفق
كان قثم بن العباس من أوفر الصحابة حظًا. فوالده العباس عمّ النبي ﷺ، وأمه أمّ الفضل لبابة بنت الحارث أول من أسلم من النساء بعد خديجة، وهي أخت ميمونة بنت الحارث إحدى أمهات المؤمنين، وكان أشبه خلق الله برسول الله ﷺ، وظل ملازما للنبي طوال حياته. وبعد وفاته، حضر غسله وتكفينه ودفنه. وكان آخر من مسّ جسده الشريف قبل أن يُوارى في الثرى.
وفي عهد الخلفاء الراشدين تولى قثم مناصب إدارية مهمة، من بينها ولاية مكة والمدينة. وفي العهد الأموي، شارك في الفتوحات في بلاد خراسان والمناطق المجاورة. وكان له دور بارز في الحملات التي قادها سعيد بن عثمان، وشارك في فتح سمرقند واستقر فيها بعد فتحها عام 675 لينشر فيها الإسلام. وبعد عام واحد، استُشهد بطعنة من غير مسلم أثناء إمامته للمصلين.
دُفن قثم بن العباس في الضفة الجنوبية من أطلال مدينة أفراسياب التاريخية في سمرقند. وسرعان ما غدا قبره مزارًا مشهورًا، وأطلق عليه المسلمون لقب “شاه زندة” أي الملك الخالد، إيمانًا منهم بأن الشهداء لا يموتون. وفي عهد القراخانيين شُيّدت مبانٍ حول ضريحه لتحويله إلى مجمّع معماري، وأضحى مركزًا روحيًا يتسابق المسلمون للدفن بجواره. لكن المجمّع دُمّر خلال الغزو المغولي، وعندما أعلن الأمير تيمور سمرقند عاصمة لإمبراطوريته عام 1370، تحول المجمع إلى مقبرة للعائلة الحاكمة.
ويُعرف مجمع “شاه زنده” اليوم ببوابة ضخمة عند مدخله بناها أولوغ بيك، حفيد الأمير تيمور. ويضم قبورًا للعديد من الشخصيات البارزة، كزوجة تيمور “تومان أكا”، وأخته شيرين بيكه، والعالم الشهير من إزنيق قاضي زاده الرومي، والأمير حسين بن توغلوك تكين. وتتميز الأضرحة والأقواس والقباب باللون الفيروزي والأخضر، ما يجعل المكان أقرب إلى متحف مكشوف منه إلى مقبرة عادية.
وفي الأسبوع الماضي، صليت الجمعة في شاه زنده. وكانت المصليات الشتوية والصيفية الواقعة في أسفل المجمع مكتظة بالمصلين، حتى اضطر القائمون إلى فتح المصلى المجاور لقبر قاضي زاده الرومي. ومع ذلك، لم يتسع المكان للجميع، فامتلأت الساحات الجانبية وحتى درجات السلالم بالمصلين.
عادةً ما تنتهي صلاة الجمعة بسرعة كبيرة في أوزبكستان؛ فالمواعظ والنصائح تُقدَّم قبل الأذان، ويقتصر الخطيب خلال الخطبة على قراءة آية وحديث مع الحمد والصلاة على النبي ﷺ، ثم تُقام الصلاة. وتستغرق الخطبة والصلاة معًا خمس أو ست دقائق على الأكثر.
لكن هذه المرة كان الوضع مختلفًا بعض الشيء. فقبل الأذان أُديت أروع وأعمق وأصدق تلاوة مؤثرة لـ”مولد النبي” ﷺ سمعتها في حياتي، وكانت باللغة العربية. وكان المشهد الأجمل في فصل “الترحيب” حين وقف الجميع لتحية النبي ﷺ، وهو مشهد يستحق المشاهدة. وما أضفى حماسة وتأثيرا أكبر في القلوب هو القيام بذلك عند قدمي قثم بن العباس، الذي كان آخر من لمس جسده الشريف.
وعندما ابتعدت قليلًا عن البهجة الروحية للمراسم وأدرت رأسي نحو الجانب البعيد من المسجد، ابتسمت لا إراديًا. فعلى بعد بضع مئات من الأمتار من مقبرة “شاه زنده”، يقع قبر أول رئيس لأوزبكستان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، إسلام كريموف. وعندما كنت أستمع إلى الصلوات والأدعية والأناشيد التي تتردد في سماء سمرقند، وأشارك في الدعوات التي يصدح بها المسلمون من كل الأعمار والجنسيات، كان من المستحيل ألا أقارن ماضي أوزبكستان بحاضرها. كان هذا مشهدًا عظيمًا يفيض بالعبرة ويستوجب الشكر، لكل من يعيه.
بسبب انشغالاتي المتعددة وسفري المتواصل، لم أتمكن من زيارة أوزبكستان منذ فترة طويلة، لكن هذه المرة شهدتُ حملة واسعة من الترميم والبناء في كل الأماكن التاريخية في أرجاء البلاد. وقد قاربت أعمال ترميم ضريح الإمام البخاري مراحلها النهائية، وتمت توسعة محيط قبر الإمام الماتريدي، كما لاحظت تجديدًا حيويًا في مساجد الأحياء التي زرتها، حتى الصغيرة منها.
لذا، يرجى قراءة هذا المقال كدليل وشاهد على أن “التاريخ يتدفق بقوة في مجراه. لا شيء يدوم. وصوت الإسلام القوي يعلو فوق كل الأصوات”.